آية التطهير عند الشيعة و السنة
آية التطهير عند الشيعة و السنة
قال الأُستاذ الآلوسي: إنّ أهمّ نصّ استدل به الشيعة و توصلوا من خلاله إلى عصمة من قالوا بعصمتهم هو قوله تعالى: ( إِنَّما يُرِيدُ اللّه لِيُذهبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهل الْبَيْتِ وَيُطَهِّركُمْ تَطْهِيراً ) ( [877]).
فقد قالوا: إنّها نزلت بشأن علي و زوجته فاطمة و ولديهما الحسن و الحسين وقد جمعهم النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إثر نزول الآية و ألقى عليهم كساء و قال: «اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي فاذهب عنهم الرجس و طهّرهم تطهيراً… » و عليه يكون المقصود بأهل البيت هم هؤلاء الأربعة فقط و ذرّيتهم من بعدهم دون غيرهم، لأنّ كلمة إنّما تفيد الاختصاص الدالّ على الحصر…و هذا الحديث و الرواية بشأن نزول الآية هي إحدى الروايات المشهورة عند أهل السنّة أيضاً في مصادرهم المعتمدة كالسيوطي و الطبري و ابن كثير والآلوسي في تفاسيرهم و كثيرون غيرهم، و قالوا أيضاً انّ قوله تعالى في الآية: ( إِنَّما يُريد ) يفيد الإرادة الإلهية القدرية النافذة و من ثمّ دلّت على حصول الشيء فعلاً و هو التطهير و ذهاب الرجس عن الأربعة «رضي اللّه عنهم» و هو ما يعرف عند المتكلّمين بالإرادة الكونية للّه الذي يقول للشيء إذا أراده ( كُنْ فيكون ) .
ثمّ ناقش استدلال الشيعة الذي نقله بوجوه نأتي بها:
1. انّ أهل السنة قالوا: إنّ المقصود بأهل البيت هم نساء النبي و ليس الأربعة رضي اللّه عنهم، و انّ الّذي رجّح عندهم هذه الرواية هو سياق الآيات التي سبقتها، و السياق له اعتباره في استنباط الأحكام ثمّ نقل الآيات المتقدمة على آية التطهير والمتأخرة عنها و كلّها نازلة في نساء النبي.
2. انّ الخطاب في آية التطهير و إن جاء بصيغة المذكر: ( عنكم أهل البيت و يطهركم… ) خلافاً للضمائر الواردة في سائر الآيات التي سبقتهاو التي أعقبتها ، فهي بصيغة المؤنث. لكنّه لا يصير دليلاً على التغاير، و انّ المقصودين من آية التطهير غير المقصودين من سائر الآيات، و ذلك لأنّه يجوز في لغة العرب مخاطبة جمع المؤنث بصيغة جمع المذكر تعبيراً لعلو المقام والمبالغة.
3. انّ حديث الرسول جاء بصيغة الطلب «اللّهمّ اذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً» و هي صيغة تفيد عدم شمول الأربعة وقت نزول النصّ، فدعا الرسول ربه أن يشملهم أيضاً بحكمه، و لو كانوا هم المقصودين لكان الرسول ناجى ربّه بصيغة الشكر لا بصيغة الطلب.
4. انّ الإرادة الواردة في الآية هي الإرادة التشريعية أي الأمر الذي لا يسلب المخاطب القدرة على الاختيار، و ليست إرادة كونية ـ التي تدّعيها الشيعة ـ و التي تتعلق بكلّ قضايا الخلق و الإيجاد فقد خُلِقتْ من دون اختيار، و ذلك لأنّه عندئذ تصبح طهارتهم ـ عصمتهم ـ أمراً خارجاًعن الاختيار ولا تكون خاضعة للثواب و العقاب.
هذه هي الأدلة التي استدل بها على نزول الآية في نساء النبيّ ، و لكن الأُستاذ ـ أنار اللّه برهانه ـ لم يتجرّد عن عقيدته في تفسير الآية، ولو كان ناظراً إليها وما حولها و ما فيها من القرائن المتصلة و المنفصلة الدالّة على نزولها في آل العباء والكساء، لما عدل عن مقتضاها، و لما اختار ما اختار.
انّ استدلال الشيعة بهذه الآية على عصمة آل الكساء مبني على أُمور تنتج مختارهم بوضوح:
الأوّل: ما هوالمراد من الإرادة في الآية؟
إنّ الإرادة المتعلّقة بالإيجاد و التكوين إرادة تكوينية و هي لا تنفك عن المراد إذا كان المريد هو اللّه سبحانه كقوله سبحانه: ( إِنَّما أمره إذا أراد شيئاً أَنْ يقول لهُ كُنْ فَيَكُون ) ( [878]) فخلق السماوات و الأرض مراد بإرادة كونية.
وأمّا الطلب الموجّه إلى البشر الحاكي عن تعلّق إرادته سبحانه بقيام الناس بالوظائف فهي إرادة تشريعية و لم يكتب عليها عدم التفكيك، فانّه سبحانه أراد الطاعة من الإنسان، وكم هناك إنسان كافر أو عاص للّه سبحانه.
و هذا التقسيم ممّا لا غبار عليه.
إنّما الكلام هو في الإرادة الواردة في آية التطهير و أنّها من أي القسمين، والأُستاذ ذهب إلى أنّها تشريعية، و لكن الدليل يسوقنا إلى أنّها كونية، و ذلك لأنّها إذا كانت تشريعية كان من لوازمها انّها لاتختص بفئة دون فئة، بدليل أنّه سبحانه أراد التطهير و التطهّر من كلّ شين و رين و طلبه من جميع الناس، من دون تخصيص و حصر. قال سبحانه:
( وَ َلِكْن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُم ) ( [879]) .
( وَ يُنَزّلُ عَلَيْكُمْ منَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهّرَكُم بهِ ) ( [880]) . ( إِنّ اللّهَ يُحِبُّ التَّّوابينَ و يُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ ) ( [881]).
( فيه رِجَالٌ يُحِبُّون أَنْ يَتَطَهّروا و اللّهُ يُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ ) ( [882]).
وحبه سبحانه علامة بعثه و طلبه، و إرادته التشريعية المتعلّقة بتطهير كل المؤمنين عامة لا جماعة خاصة.
و سؤالنا هو : لو كانت الإرادة الواردة في الآية المبحوثة كالإرادة الواردة في هذه الآيات فما هو وجه التخصيص بأُمور خمسة:
ألف: بدأ قوله سبحانه بحرف ( إنّما ) المفيدة للحصر.
ب: قدم الظرف و قال: ( ليذهب عنكم الرجس ) و لم يقل ليذهب الرجسَ عنكم، و ذلك لأجل أنّ التقديم يفيد التخصيص .
ج: بيّن من تعلّقت الإرادة بتطهيرهم بصيغة الاختصاص و قال: ( أهل البيت ) أي أخصُّكم أهل البيت مثل قول النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) : «نحن معاشر الأنبياء…».
وقول قائلهم: نحن العرب أسخى من بَذَل.
د: أكد المطلوب بتكرير الفعل و قال: ( و يطهّركم ) الذي هو تأكيد لمعنى إذهاب الرجس المتقدّم عليه.
هـ: أرفقه بالمفعول المطلق و قال: ( تطهيراً ) .
فهذه الوجوه الخمسة آية أنّ هذه الإرادة إرادة خاصّة بأهل البيت لا يشاركهم فيها أحد من الأُمّة، و إلاّلكانت تلك العناية البالغة في مجال التخصيص و الاختصاص لغواً مضراً بالبلاغة، وغير لائقة بكلام ربّ العزة.
ثمّ إنّ تعلّق إرادته التكوينية بطهارة أهل البيت من الذنب ليس بأمر جديد، فقد جاء نظيره في مريم سلام اللّه عليها ، قال اللّه سبحانه: ( إنّ اللّهَ اصطَفَاكِ وَ طَهَّركِ و اصْطَفَاكِ على نِسَاِء العَالَمِينَ ) ( [883]).
و ليس هذا الإصطفاء و التطهير بالإرادة التشريعيّة، فانّ مريم و غيرها أمام هذه الإرادة سواسية، بل هناك إرادة خاصّة تعلّقت بمريم دون غيرها فطهرتها من الذنوب و حصّنتها من اقتراف المعاصي.
و سيوافيك انّ تعلّق الإرادة التكوينية بالطهارة من الذنب لا ينافي الاختيار على الاستجابة و الرفض، والثواب و العقاب، والفعل و الترك.
***
الثاني: ما هو المراد من الرجس؟
هذا هو الأمر الثاني الذي يجب الإمعان فيه حتّى يكون الدليل منتجاً لا عقيماً و قد غفل الأُستاذ عن تبيين تلك الناحية في كلامه فنقول: إنّ الرجس استعمل في الذِّكر الحكيم، في الخمر و الميسر والأنصاب و الأزلام ( [884]) كما استعمل في الميتة و الدم و لحم الخنزير ( [885]) و في الأوثان ( [886]) و في المنافقين ( [887]) و في المشركين ( [888]) و في غير المؤمنين ( [889]) إلى غير ذلك من موارد استعماله في الكتاب والسنّة النبوية واللغة العربية، فينتقل الإنسان من مجموع هذه الموارد إلى أنّ الرجس عبارة عن كلّ قذارة ظاهرية كالدم و لحم الخنزير، أو باطنية و روحية كالشرك و النفاق وفقد الإيمان. و بالجملة مساوئ الأخلاق، و الصفات السيئة والأفعال القبيحة التي يجمعها الكفر و النفاق والعصيان.
فالمنفي في الآية المبحوثة عنها هو هذا النوع من الرجس، فهو بتمام معنى الكلمة ممّا أذهبه اللّه عن أهل البيت.
فإذا كان أهل البيت منزهين عن النفاق و الشرك و الأعمال القبيحة و ما يراد منها، فهم معصومون من الذنب مطهّرون من الرجس، بإرادة منه سبحانه.
وقد رباهم اللّه سبحانه و جعلهم معلّمين للأُمّة هادين للبشر، كما ربّى أنبياءه و رسله لتلك الغاية.
فهل الأُستـاذ ـ حفظه اللّه ـ يوافقنـا على هذا التفسير أم انّ له في تفسير الرجس مذهباً آخر فليبينه لنا؟ ولا أظن أن يفسره بغير ما يفسره القرآن.
وعلى ضوء ذلك فأهل البيت ـ كانوا من كانوا ـ معصومون بنصّ هذه الآية، مطهّرون من الذنب والعثرة في القول و العمل بإذن من اللّه سبحانه و إرادة حاسمة. وقد اتّفقت الأُمّة على أنّ نساء النّبي لسنَ بمعصومات، فانّ الآيات الواردة في سورة الأحزاب، أوّلاً ثمّ في سورة التحريم ثانياً حيث يقول سبحانه: ( إِنْ تَتُوبَا إِلِى اللّهِ فَقَد صَغَت قُلُوبُكُمَا و إن تَظَاهَرَا عَلَيهِ فَإِنَّ اللّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَ جِبْرِيلُ وَ صَالِحُ المُؤمِنِينَ والملائكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ) ( [890]) تثبت ذلك.
و هذا لا يعني أن نبخس حقّهن، و نترك تكريمهن فانّهن أُمّهات المؤمنين لهنّ من الحقوق ما شرعها اللّه في كتابه و سنة نبيّه المطهّرة.
***
الثالث: ما هوالمراد من «البيت»؟
لا شكّ انّ ( البيت ) في هذه الآية محلاّة باللام و هي تستعمل في تعريف الجنس، والاستغراق، والعهد فيجب التدبّر في مفادها، فهل هي هنا لتعريف الجنس أو لبيان الاستغراق، أو انّها تشير إلى بيت معهود بين المتكلّم و المخاطَب؟
أمّا الأوّل والثاني فلا سبيل إليهما، لأنّه سبحانه ليس بصدد بيان انّ إرادته الحكيمة تعلقت باذهاب الرجس عن أهل جنس البيت أو كلّ البيوت في العالم، و ذلك واضح لا يحتاج إلى الاستدلال إذ تكون حينئذ شاملة لبيوت عامة المؤمنين.
فتعيّن الثالث، و هو كون المراد (بيت واحد) معيّن معهود، بين المتكلّم والمخاطب (أي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ).
و عندئذ يجب علينا أن نحاول فهم ذلك البيت المعهود و انّه ما هو؟
و لا يمكن لنا أن نطبقه على بيوت نساء النبي بشهادة أنّه سبحانه عند ما يذكر بيوتهنّ فانّه يذكرها بصيغة الجمع إذ أنّ لهنّ بيوتاً لا بيت واحد.
و الآية تركز على البيت الواحد، و الدليل على تعدّد بيوتهنّ:
قوله سبحانه: ( وَقَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ وَ لا تَبَرَّجْن تَبَرّج الجاهليّةِ الأُولى ) ( [891]) .
و قوله سبحانه: ( واذكُرْنَّ ما يُتلَى في بُيُوتِكُنَّ من آياتِ اللّهِ والحكمَةِ ) ( [892]) .
فإنّنا نرى هنا انّه لم يكن لنساء النبي بيت واحد بل بيوت عديدة.
و لم يكن للنبيّ أيضاً بيت واحد.
قال سبحانه: ( يا أيُّها الذينَ آمَنْوا لا تَدخُلُوا بُيُوتَ النبيّ إلاّأن يُؤذَنَ لَكُم ) ( [893]) .
فإنّنا نرى هنا انّه لم يكن للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا لنسائه بيت واحد بل بيوت عديدة فما هو المراد ـ ياترى ـ بالبيت الذي جاء بصيغة المفرد؟
فعندئذ يجب على المفسّر المحقّق المجرّد من كلّ عقيدة مسبّقة تبيين هذا البيت و تعيينه، فهذا البيت ليس من بيوت نسائه، ولا بيوت نفس النبيّ بشهادة ما مضى من أنّ القرآن عندما يتحدّث عن ازواج النبي و نفس النبي إنّما يتحدّث عن بيوت لهن لا عن البيت الواحد. فلا محيص عن تفسيره ببيت واحد معهود فأيّ بيت ذاك؟فعلى الأُستاذ تعيينه.
هذا إذا كان المراد من البيت هو البيت المحسوس ، أي البيت المادي وهناك احتمال آخر و هو أن يكون المراد منه هو مركز الشرف و مجمع السيادة و العزّ ، وإن شئت قلت إذا أُريد منه بيت النبوّة و بيت الوحي و مركز أنوارهما فلا يصحّ أن يراد منه إلاّ المنتمون إلى النبوّة و الوحي بوشائج روحيّة خاصة على وجه يصحّ مع ملاحظتها، عدّهم أهلاً لذلك البيت، و تلك الوشائج عبارة عن النزاهة في الروح و الفكر.
ولا يشمل كل من يرتبط ببيت النبوّة عن طريق السبب أو النسب فحسب، و في الوقت نفسه يفتقد الأواصر الروحيّة الخاصة، و لقد تفطّن العلاّمة الزمخشري صاحب التفسير لهذه النكتة، فهو يقول في تفسير قوله تعالى: ( أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَةُ اللّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ) ( [894]) :
لأنّها كانت في بيت الآيات و مهبط المعجزات و الأُمور الخارقة للعادات فكان عليها أن تتوقّر ولا يزدهيها ما يزدهي سائر النساء الناشئات في غير بيوت النبوّة، و أن تسبّح اللّه و تمجّده مكان التعجّب، و إلى ذلك أشارت الملائكة في قولها: ( رَحْمَةُ اللّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ… ) أرادوا أنّ هذه و أمثالها ممّا يكرمكم به ربّ العزّة و يخصّكم بالأنعام به يا أ هل بيت النبوّة. ( [895])
و على ذلك لا يصح تفسير الآية بكل المنتمين عن طريق الأواصر العائلية إلى بيت خاص حتى بيت فاطمة إلاّ أن تكون هناك الوشائج المشار إليها.
ولقد جرى بين «قتادة» ذلك المفسّر المعروف و بين أبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام) مناظرة لطيفة أرشده الإمام فيها إلى هذا المعنى الذي أشرنا إليه قال ـ عند ما جلس الإمام الباقر (عليه السلام) ـ : لقد جلست بين يدي الفقهاء و قدّام ابن عباس فما اضطرب قلبي قدّام واحد منهم ما اضطرب قدّامك. قال له أبوجعفر الباقر (عليه السلام) : ويحك أتدري أين أنت؟ أنت بين يدي ( بُيُوت أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ الآصالِ* رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَ إيتاءِ الزَّكاةِ ) ( [896]) فأنت ثم و نحن أُولئك. فقال قتادة: صدقت و اللّه جعلني اللّه فداك، و اللّه ما هي بيوت حجارة ولا طين. ( [897])
و ما جاء في كلام باقر الأُمّة (عليه السلام) يحضّ المفسّر فيها على البحث و التحقيق عن الذين يرتبطون بذلك البيت الرفيع بأواصر روحيّة معينة و بذلك يظهر وهن القول بأنّ المراد من البيت أزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، لأنّه لم تكن تلك الوشائج الخاصة ـ باتفاق المسلمين ـ بينهـنّ ، و أقصى ما عندهنّ أنّهنّ كنّ مسلمات مؤمنات.
***
الرابع: الضمائر
نرى أنّه سبحانه عندما يتحدث عن أزواج النبي و نسائه يذكرهنّ بصيغة جمع المؤنث، ولا يذكرهنّ بصيغة الجمع المذكر ، فانّه سبحانه يأتي في تلك السورة من الآية 28 إلى الآية 34 باثنين و عشرين ضميراً ـ مؤنثاً مخاطباً بها نساء النبي وإليك الإيعاز إليها:
1. كنتنّ; 2. تردن; 3. تعالين; 4. امتعكنّ; 5. أُسرّحكنّ ( [898]).
6. كنتنّ; 7. تردن; 8. منكنّ ( [899]).
9. منكنّ ( [900]).
10. منكنّ ( [901]).
11. لستنّ; 12. اتقيتنّ; 13. فلا تخضعنَ; 14. و قلنَ ( [902]).
15. وقرنَ ; 16. بيوتكنَ; 17. تبرّجنَ; 18. اقمنَ; 19. آتينَ; 20. اطعنَ( [903]).
21. و اذكرنَ; 22. في بيوتكنَّ ( [904]).
نرى أنّه سبحانه عندما يتحدّث عن نساء النبي يذكرهن بهذه الضمائر، مع انّا نرى انّه سبحانه عند ما يذكر أهل البيت يذكرهم بضمائر المذكر، ويقول: ( ليذهب عنكم ) ، ( و يطهّركم ) .
فما هو وجه العدول في هذه الآية عن السياق الوارد في الآيات المتقدمة والمتأخرة عنها؟
و ما يقوله الأُستاذ من أنّ أهل السنة يجوّزون في لغة العرب مخاطبة الجمع المؤنث، بصيغة جمع المذكر تعبيراً لعلوّ المقام، والمبالغة، لو كانت صحيحة، فما هو وجه العدول في مورد واحد عمّا ورد في اثنين عشرين مورداً؟!
أليس هذا العدول لذلك التبرير المزعوم موجباً للالتباس و وقوع المخاطب في الاشتباه؟
إلى هنا ثبت انّ الآية لا تهدف إلى نساء النبي، و إنّما تهدف إلى بيت واحد وإلى أهله خاصّة.
فعند ذلك يجب علينا أن نميط الستر عن وجه الحقيقة عن طريق السنة النبوية.
السنّة النبوية تميط الستر عن وجه الحقيقة
إنّ للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عناية وافرة بتعريف أهل البيت لم ير مثلها إلاّفي أُمور نادرة حيث قام بتعريفهم بطرق مختلفة ، و إليك بيانها على سبيل الإيجاز والاختصار .
لقد قام النبيّ بتعريف أهل البيت بطرق ثلاثة:
أوّلاً: صرّح بأسماء من نزلت الآية في حقّهم، حتى يتعين المنزول فيه باسمه و رسمه.
ثانياً: قد أدخل جميع من نزلت الآية في حقّهم تحت الكساء و منع من دخول غيرهم.
ثالثاً: كان يمر ببيت فاطمة عدّة شهور كلّما خرج إلى الصلاة فيقول: الصلاة أهل البيت ( إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهّركم تطهيراً ) . و نذكر من كلّ طائفة نماذج:
أما الأُولى: أخرج الطبري في تفسير الآية عن أبي سعيد الخدري قال، قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : نزلت الآية في خمسة: فيّ وفي علي رضي اللّه عنه و حسن رضي اللّه عنه ، وحسين رضي اللّه عنه، و فاطمة رضي اللّه عنها، ( إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهّركم تطهيراً ) .
و قد رويت في هذا المجال روايات فمن أراد فليرجع إلى تفسير الطبري والدر المنثور للسيوطي.
و أمّا الثانية: فقدروى السيوطي و أخرج ابن أبي شيبة و أحمد ومسلم و ابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم عن عائشة رضي اللّه عنها قالت :خرج رسول اللّه غداة و عليه مرط مرجّل من شعر أسود فجاء الحسن و الحسين رضي اللّه عنهما فأدخلهما معه، ثمّ جاء علي فأدخله معه ثمّ قال: ( إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهّركم تطهيراً ) .
ولو لم تذكر فاطمة في هذا الحديث فقد جاء في حديث آخر، حيث روى السيوطي قال: و أخرج ابن جرير و الحاكم و ابن مردويه عن سعد قال: نزل على رسول اللّه الوحي فأدخل علياً و فاطمة و ابنيهما تحت ثوبه، قال: اللّهمّ انّ هؤلاء أهلي وأهل بيتي.
و في حديث آخر جاء رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى فاطمة و معه حسن وحسين، و علي حتى دخل فأدنى علياً و فاطمة فأجلسهما بين يديه و أجلس حسناً و حسيناً كل واحد منهما على فخذه ثمّ لف عليهم ثوبه و انا مستدبرهم ثمّ تلا هذه الآية : ( إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهّركم تطهيراً ) .
و أمّا الطائفة الثالثة : فقد أخرج الطبري عن أنس أنّ النبي كان يمرّببيت فاطمة ستة أشهر كلّما خرج إلى الصلاة فيقول الصلاة أهل البيت ( إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهّركم تطهيراً ) ..
و للوقوف على مصادر هذه الروايات لاحظ تفسير الطبري ، ج22، ص 5ـ7، و الدر المنثور:ج5، ص 198ـ 199، و الروايات تربو على أربع و ثلاثين رواية، و رواها من عيون الصحابة: أبو سعيد الخدري، أنس بن مالك ، ابن عباس، أبو هريرة الدوسي، سعد بن أبي وقاص، واثلة بن الاسقع، أبو الحمراء أعني هلال بن حارث، أُمّهات المؤمنين عائشة و أُمّ سلمة.
و رواه من أصحاب الصحاح: مسلم في صحيحه :ج7، ص 122ـ123 و الترمذي في سننه.
ولاحظ جامع الأُصول لابن الأثير ج 10 ، ص 103.
و بالإمعان في ما ذكرنا من النصوص تقف على ضعف قول الأُستاذ حيث يقول: إنّ حديث الرسول جاء بصيغة الطلب، اللّهمّ اذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، و هي تفيد عدم شمول الآية للأربعة وقت نزول النص، فدعا الرسول ربّه بأن يشملهم أيضاً بحكمه.
فانّ ما ذكره الأُستاذ إنّما جاء في بعض صور هذا الحديث، و لكن الكثير على خلاف هذا فانّ صيغة (أذهِب) جاءت في قليل من النصوص والصور، و أمّا الأكثر فمشتمل على أنّ النبي جللهم تحت الكساء و تلا الآية المذكورة.
فقد أخرج مسلم عن عائشة أنّها قالت: خرج النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وعليه مرط مرجل أسود فجاءه الحسن فأدخله، ثمّ جاءه الحسين فأدخله، ثمّ جاءت فاطمة فأدخلها، ثمّ جاء علي فأدخله، ثمّ قال: ( إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهّركم تطهيراً ) .
ولو افترضنا صحّة ما ورد من صيغة الطلب، فهذا لا يدل على عدم الشمول، وإنّما هو دعاء على استمرار الشمول كقوله سبحانه: ( إهدنا الصراط المستقيم ) فانّه يتلوه النبي و الوصي والمؤمنون كلهم، و ليس معناه خروجنا عن الصراط المستقيم حتى يهدينا اللّه سبحانه إليه.
بقي هنا كلام و هو أنّ لفيفاًمن التابعين ذكروا انّ الآية نزلت في حقّ نساء النبي و أزواجه ، ولكن هذه الرواية تصل إلى عكرمة الخارجي الحروري ( [905]) و عروة ابن الزبير المعروف بالانحراف عن علي(عليه السلام) ( [906]) و مقاتل بن سليمان ( [907]) الذي يعد من أركان المشبّهة.
عود إلى بدء
قد تعرفت على منطق الشيعة في نزول الآية في آل العباء و الكساء و دلالتها على عصمتهم من الذنب و العصيان، غير انّ الكاتب القدير محمد الآلوسي قد استبعد نزولها في حقّهم بأُمور ربما مضى تحليلها في ثنايا البحث و لإيضاح المطلب نرجع إلى تحليل ما استند إليه ثانياً.
قد مضى انّه استند في تقريب مختاره إلى الأُمور التالية:
1. سياق الآيات يمنع عن نزولها في غير أزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) .
2.انّ تذكير الضميرين في آية التطهير مع أنّ المقصود هو نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو لأجل الإشعار بعلو المقام و المبالغة.
3. حديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) جاء بصيغة الطلب، و هذا دليل على عدم شمول الآية لآل العباء و لو شملت الآية لهم لجاء بصيغة الشكر.
4. الإرادة التكوينية المتعلقة بالعصمة تسلب الاختيار عن المعصوم و لا يكون عمله خاضعاً للثواب و العقاب.
وإليك تحليل تلك الأُمور:
الف: مشكلة السياق
إنّ القول بنزول الآية في آل الكساء لا توجد أيّ مشكلة في سياقها شريطة الوقوف على أُسلوب البلغاء في كلامهم و خطاباتهم. فانّ من عادتهم الانتقال من خطاب إلى غيره ثمّ العود إليه مرّة أُخرى.
قال صاحب المنار: إنّ من عادة القرآن أن ينتقل بالإنسان من شأن إلى شأن ثمّ يعود إلى مباحث المقصد الواحد المرة بعد المرة. ([908])
و قد اعترف الكاتب بهذه الحقيقة أيضاً عند بحثه في آية الولاية التي سيوافيك البحث عنها بعد الفراغ من آية التطهير حيث قال ما هذا نصّه:
الأصل عند أهل السنّة انّ الآية تعتبر جزءاً من سياقها إلاّ إذا وردت القرينة على أنّـها جملة اعتراضية تتعلّق بموضوع آخر على سبيل الاستثناء و هو اسلوب من أساليب البلاغة عند العرب جاءت في القرآن الكريم على مستوى الإعجاز.
وقال الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) : «إنّ الآية من القرآن يكون أوّلها في شيء وآخرها في شيء». ( [909])
فعلى سبيل المثال، انّه سبحانه يقول في سورة يوسف حاكياً عن العزيز انّه بعدما واجه الواقعة في منزله قال: ( إنّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أعْرِضْ عَنْ هذا و اسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إنّكِ كُنتِ من الخاطِئين ) ( [910]).
ترى أنّ العزيز يخاطب زوجته بقوله: ( إنّه من كيدكن ) و قبل أن يفرغ من كلامه معها يخاطب يوسف بقوله: ( يوسف أعرض عن هذا ) ثمّ يرجع إلى الموضوع الأوّل، و يخاطب زوجته بقوله: ( واستغفري لذنبكِ ) فقوله: ( يوسف أعرض عن هذا ) جملة معترضة، وقعت بين الخطابين، و المسوّغ لوقوعها بينهما كون المخاطَب الثاني أحدَ المتخاصمين و كانت له صلة تامّة بالواقعة التي رفعت إلى العزيز.
و الضابطة الكلية لهذا النوع من الخطاب هو وجود التناسب المقتضي للعدول من الأوّل إلى الثاني ثمّ منه إلى الأوّل و هي موجودة في الآية فانّه سبحانه يخاطب نساء النبي بالخطابات التالية:
1. ( يا نِساءَ النَّبِىِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بفاحِشَة ُمَبِيّنَة يُضاعَفْ لَها العَذَابُ ضِعْفَيْن ) ( [911]) .
2. ( يا نِساءَ النَّبِىِّ لَسْتُنَّ كَأَحَد مِنَ النِّساءِ إنِ اتّقَيْتُنّ ) ( [912]) .
3. ( و قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ولاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّج َالجَاهِلِيّةِ الأُولى ) ( [913]).
فعند ذلك صحّ أن ينتقل إلى الكلام عن أهل البيت الّذين أذهب اللّه عنهم الرجس و طهّرهم تطهيراًو ذلك لوجهين:
1ـ تعريفهن على جماعة بلغوا في التورع و التقى الذروة العلياء و في الطهارة عن الرذائل والمساوئ، القمةَ، و بذلك استحقوا أن يكونوا أُسوة في الحياة و قدوة في مجال العمل، فيلزم عليهنّ أن يقتدين بهم،و يستضئن بنورهم.
2ـ كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) محوراً للطائفتين المجتمعتين حوله (صلى الله عليه وآله وسلم) .
الأُولى: أزواجه و نساؤه.
الثانية: بنته و زوجها و أولادها.
فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الرابط الذي تنتهي إليه تلك المجموعتان، فنحن ننظر إلى كلّ طائفة مجرّدةً عن الأُخرى و لأجل ذلك نرى انقطاع السياق، إذا فسرنا أهل البيت بفاطمة و زوجها و بنيها.
ولكن لما كان المحور للمجموعتين هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واللّه سبحانه يتحدث فيما يرتبط بالنبي من بيوتو أهلها، فعند ذلك تتراءى المجموعتان كمجموعة واحدة حول النبي و هو الرابط بينهما ، فيعطى لكل جماعة حكمها فيتحدث عن نسائه بقوله : ( يا أيّها النبي قل لأزواجك. يا نساء النبي من يأت. يا نساء النبي لستنّ ) الخ.
كما انّه يتحدث عن المجموعة الأُخرى الموجودة في تلك الجماعة بقوله: ( إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم ) .
فالباعث للجمع بين الطائفتين في تلك المجموعة من الآيات و في ثنايا آية واحدة إنّما هو انتساب الكلّ إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وحضورهما حوله، و ليس هناك أي مخالفة للسياق.
ب: تذكير الضمائر لأجل التعبير عن علو المقام
قد تعرفت في ثنايا الكلام ضعف هذا الاعتذار، والواجب ان لا نعود إليه.
وقد عرفت انّ مجموعة الآيات الواردة في هذا المضمار تشتمل على اثنين وعشرين ضميراًبصيغة الجمع المؤنث كلّها ترجع إلى نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فعند ذلك يطرح هذا السؤال فأي سبب دعا المتكلم إلى الايعاز لعلو مقامهم و المبالغة في تكريمهم في هذا المورد دون الموارد الأُخرى مع أنّ المورد لا يقتضي الإيعاز إلى علو مقامهم، فترى أنّ المتكلّم يتشدد في كلامه معهنّ حيث يقول:
( يا نِساءَ النَّبِىِّ مَن يَأْتِِ مِنكُنَّ بفاحِشَة مُبَيِّنَة يُضَاعَفْ لَهَا العَذَابُ ضِعفَيْنِ … ) ( [914]) .
و يقول: ( يا نِساءَ النَّبِيّ لَسْتُنَّ كَأحَد مِنَ النِّساءِ إنِ اتَّقَيْتُنَّ َفَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي في قَلْبِهِ مَرَضٌ… ) ( [915]).
و يقول: ( وَ قَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِليَّةِ الأُولى… ) ( [916]). أفي هذا المقام الذي أخذ المتكلم يندد بهنّ و يطلب منهنّ أن لا يتبرجن تبرج الجاهلية الأُولى يستحق الإيعاز بتكريمهن و بيان علو مقامهن!
ترى أنّ لحن الكلام لحن التشدد و التنديد و مثل هذا المقام لا يناسب الإيعاز بعلو مقامهنّ و الإشارة إلى تكريمهنّ خصوصاً انّ العدول يوجب الالتباس و الذي دعا الكاتب إلى التمسك بهذا الحبل الموهن هو صيانة عقيدته التي نشأ عليها منذ نعومة أظفاره إلى يومه هذا و إلاّفالأُستاذ كاتب قدير يعلم مواقف التكريم والتقدير عن غيرها.
ج: حديث الرسول جاء بصيغة الطلب
يقول الأُستاذ الآلوسي: إنّ حديث الرسول جاء بصيغة الطلب، و قال: «اللهمّ اذهب» و لو كانت الآية شاملة لهم لكان المناسب هو صيغة الشكر لا صيغة الطلب.
يلاحظ عليه: انّ الأُستاذ انتقى من أحاديث الرسول ما جاء فيها صيغة الطلب و ترك غيرها و قد عرفت لفيفاً من الأحاديث و كيف أنّ الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) تكلم فيها مخبراً عن ذهاب الرجس عنهم لا طالباً، و فيما مضى كفاية.
د: الإرادة التكوينية تسلب الاختيار
هذا هو السبب المهم لما ذهب إليه الأُستاذ من أنّ الإرادة في الآية تشريعية لا تكوينية، و ذلك لأنّ الإرادة التكوينية تسلب الاختيار و بالتالي لا تصبح العصمة فخراً، لأنّ الإنسان مع هذه الإرادة يصبح بلا اختيار.
يلاحظ على هذا الكلام: انّ القول بالعصمة لو كان سالباًللاختيار فالإشكال يسري إلى جميع الأنبياء والمرسلين و على رأسهم سيد المرسلين فانّهم معصومون من الخطأ في إبلاغ الأحكام و من العصيان في تطبيق الشريعة على الساحة باتفاق الأُمة إلاّ من شذ ممن لا يعبأ به فلو كانت العصمة سالبة للاختيار فما قيمة عصمتهم و ما قيمة اجتنابهم عن المعاصي.
و هذا الإشكال ليس جديداً و إنّما هو مطروح في الموسوعات الكلامية والكتب التفسيرية و قد قام المحقّقون من علماء الإسلام بالإجابة عنه و قالوا:
إنّ العصمة لا تسلب الاختيار عن الانسان، فانّ المعصوم قادر على اقتراف المعاصي و ارتكاب الخطايا حسب ما أُعطي من القدرة و الحرية غير انّ وصوله إلى الدرجة العليا من التقوى واستشعاره بعظمة الخالق يصدّه عن اقترافها.
وإن شئت قلت: إنّ المعصوم قد بلغ في العلم بآثار المعاصي مرحلة يشاهد آثارها السيئة مشاهدة حضورية لا يتسرب إليها الشك و الترديد ـ يقول سبحانه:
( كلاّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليَقِينِ * لتَرَوُنَّ الجَحِيم ) ( [917]).
و مثل هذا العلم يصدّ الإنسان عن ارتكاب المعاصي، و لأجل تقريب الفكرة نأتي بالمثال التالي:
إنّ الوالد العطوف بالنسبة إلى قتل ولده معصوم لا يقدم عليه، و مع ذلك هو قادر عليه، أما انّه قادر فلا شكّ انّ بإمكانه أن يأخذ بالسكين و يذبحه كما يذبح الكبش، و امّا انّه لا يقدم عليه و لو اعطي له الكنوز المكنوزة و المناصب المرموقة، لأنّ عطفه و حنانه قد ملئ بهما قلبه فلا يبادله بشيء.
فالعلم بآثار الموبقات تعطي ملكة العصمة، و لكن لا تغير الطبيعة الإنسانية ، المختارة في أفعالها الإرادية، ولا يخرجها إلى ساحة الإجبار و الاضطرار.
هذا إجمال ما أوضحناه في موسوعتنا التفسيرية. ( [918])
آية الولاية و زعامة الإمام علي (عليه السلام)
قال الأُستاذ الآلوسي:
لم تزل الشيعة عن بكرة أبيهم يستدلّون على إمامة الإمام علي و قيادته وزعامته بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله سبحانه: ( إِنّما وَلِيُّكُمُ اللّه و رَسُولُهُ و الّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَة و يُؤتُونَ الزّكاَة و هُمْ راكِعُون ) (و قد سقط في نص المقال جملة «و يؤتون الزكاة)» ( و مَن َيَتَوَّل اللّهَ و رَسُولَهُ والّذِينَ آمَنُوا فإنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الغالِبُون ) ( [919]).
و إليك عرضاً موجزاً لاستدلالهم:
استدلت الشيعة بهذه الآية على أنّ عليّاً (عليه السلام) وليّ المسلمين بعد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، قائلين بأنّ الآية تعد الولي ـ بعد اللّه و رسوله ـ الّذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة في حال الركوع، و قد تضافرت الروايات بأنّ عليّاً (عليه السلام) تصدّق بخاتمه و هو راكع فنزلت الآية.
أخرج الحفاظ و أئمّة الحديث عن أنس بن مالك و غيره أنّ سائلاً أتى مسجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و عليٌّ (عليه السلام) راكعٌ فأشار بيده للسائل أي اخلع الخاتم من يدي. قال رسول اللّه : يا عمر وجبت. قال: بأبي أنت و أُمّي يا رسول اللّه ما وجبت؟!قال: وجبت له الجنّة واللّه، و ما خلعه من يده حتّى خلعه اللّه من كلِّ ذنب و من كلِّ خطيئة. قال: فما خرج أحدٌ من المسجد حتّى نزل جبرئيل بقوله عزّ وجلّ: ( إنّما وليّكم اللّهُ و رسوله و الّذين آمنوا الّذين يُقيمون الصَّلاة و يُؤتون الزَّكاة و هُمْ راكعون ) . فأنشأ حسّان بن ثابت يقول:
أبا حسن تفديك نفسي و مهجتي *** و كلّ بطيء في الهدى و مسارع
أيذهب مدحي و المحبّين ضايعاً؟! *** وما المدح في ذات الإله بضائع
فأنت الذي أعطيت إذ أنت راكعٌ *** فدتك نفوس القوم يا خير راكع
بخاتمك الميمون يا خير سيّد *** و يا خير شار ثمّ يا خير بائع
فأنزل فيك اللّه خير ولاية *** و بيَّنها في محكمات الشرائع ( [920])
و قد أخرجه ابن جرير الطبري ( [921]) والحافظ أبوبكر الجصاص الرازي في أحكام القرآن ( [922]) و الحاكم النيسابوري (المتوفّـى 405) ( [923])و الحافظ أبو الحسن الواحدي النيسابوري (المتوفّـى 468) ( [924]) و جار اللّه الزمخشري (المتوفّـى 5388) إلى غير ذلك من أئمّة الحفاظ و كبار المحدثين ربما ناهز عددهم السبعين ، وهم بين محدّث ومفسّر و مؤرخ و يطول بنا الكلام لو قمنا بذكر أسمائهم ونصوصهم، و كفانا في ذلك مؤلّفات مشايخنا في ذلك المضمار. ( [925]) و لا يمكن لنا إنكار هذه الروايات المتضافرة لو لم تكن متواترة، فانّ اجتماعهم على الكذب أو على السهو و الاشتباه أمر مستحيل.
و المراد من الولي في الآية المباركة هو الأولى بالتصرف كما في قولنا : فلان وليّ القاصر، و قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) «أيّما امرأة نُكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل» وقد صرّح اللغويّون و منهم الجوهري في صحاحه بأنّ كلّ من ولي أمر أحد فهو وليّه ، فيكون المراد: انّ الّذي يلي أُموركم فيكون أولى بها منكم إنّما هو اللّه عزّوجلّ و رسوله و من اجتمعت فيه هذه الصفات: الإيمان و إقامة الصلاة، و إيتاء الزكاة في حال الركوع. و لم يجتمع يوم ذاك إلاّ في الإمام علي حسب النصوص المتضافرة.
و في حقّه نزلت هذه الآية.
و الدليل على أنّ المراد من الولي هو الأولى بالتصرف أنّه سبحانه أثبت في الآية الولاية لنفسه و لنبيه و لوليه على نسق واحد، وولاية اللّه عزّوجلّ عامة فولاية النبي و الولي مثلها و على غرارها. غير انّ ولاية اللّه، ولاية ذاتية و ولاية الرسول والولي مكتسبة معطاة، فهما يليان أُمور الأُمّة بإذنه سبحانه.
ولو كانت الولاية المنسوبة إلى اللّه تعالى في الآية غير الولاية المنسوبة إلى الّذين آمنوا لكان الأنسب أن تفرد ولاية أُخرى للمؤمنين بالذِّكر، دفعاً للالتباس كما نرى نظيرها في الآيات التالية:
قال تعالى: ( قُلْ أُذُنٌ خَيْر لَكُمْ يُؤْمِنُ باللّهِ و يُؤْمِنُ للمُؤمِنِين ) ( [926]).
نرى انّه سبحانه كرر لفظ الإيمان، و عدّاه في أحدهما بالباء، و في الآخر باللاّم لاختلاف في حقيقة إيمانه باللّه، و للمؤمنين حيث إنّ إيمانه باللّه سبحانه إيمان جدّي و تصديق واقعي، بخلاف تصديقه للمؤمنين المخبرين بقضايا متضادة حيث لا يمكن تصديقهم جميعهم تصديقاً جدياً، و الذي يمكن هو تصديقهم بالسماع و عدم الرفض و الرد، ثمّ التحقيق في الأمر، و ترتيب الأثر على الواقع المحقّق.
و ممّا يكشف عن وحدة الولاية في الآية المبحوثة انّه سبحانه أتى بلفظ «وليكم» بالافراد ، و نسبه إلى نفسه و إلى رسوله و إلى الّذين آمنوا، و لم يقل: «وإنّما أولياؤكم» وما هذا إلاّ لأنّ الولاية في الآية بمعنى واحد و هو: الأولى بالتصرف، غير أنّ الأولوية في جانبه سبحانه بالأصالة و في غيره بالتبعية.
وعلى ضوء ذلك يُعلم انّ القصر والحصر المستفاد من قوله:«إنّما» لقصر الإفراد ، و كأنّ المخاطبين يظنون انّ الولاية عامّة للمذكورين في الأُمة و غيرهم، فأُفرد المذكورون للقصر، و انّ الأولياء هؤلاء لا غيرهم.
ثمّ يقع الكلام في تبيين هؤلاء الّذين وصفهم اللّه سبحانه بالولاية و هم ثلاثة:
1. اللّه جلّ جلاله.
2. و رسوله الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) .
وهما غنيان عن البيان.
وأمّا الثالث فبما أنّه كان مبهماً بيّنه بذكر صفاته و خصوصياته الأربع:
1. ( الّذين آمنوا ) .
2. ( الّذين يقيمون الصلاة ) .
3. ( و يؤتون الزكاة ) .
و لا شكّ انّ هذه السمات، سمات عامة لا تميز الولي عن غيره.
فالمقام بحاجة إلى مزيد توضيح يجسّد الولي و يحصره في شخص خاص لا يشمل غيره، و لأجل ذلك قيّده بالسمة الرابعة أعني قوله: ( و هم راكعون ) . وهي جملة حاليّة لفاعل يؤتون، وهو العامل فيها. وعند ذلك انحصر في شخص خاص على ما ورد في الروايات المتضافرة.
هذا هو منطق الشيعة في تفسير الآية لا تتجاوز في تفسيرها عن ظاهرها قيد أنملة.
نعم نقل الكاتب القدير نظرية أُخرى و هي لأهل السنة فقال: إنّ هذه الآية لم تنزل بهذا السبب رغم ورود هذه الرواية (نزولها في حقّ عليّ) عندهم، و في كتبهم و تفاسيرهم، مرجحين في ذلك روايات أُخرى تفيد نزولها بحقّ الّذين كانت بينهم و بين اليهود في المدينة تحالفات عُقِدت قبل الإسلام و قبل الهجرة فمنهم من رفض فكّ ارتباطه باليهود حرصاً منه على موالاتهم، و منهم من أنهى هذا التحالف قائلاً بولاية اللّه و رسوله و المؤمنين عليه معززين رأيهم الذي رجحوه على جملة اعتبارات:
منها انّ كلمة الولاية مشتركة في معانيها، فهي مثلما تعني الرئاسة و الزعامة تعني الولاء والنصرة والحب و الود وا لتحالف و انّ هذا المعنى الأخير هو المرجح عند نزول الآية لوجود تحالف كان قائماً فعلاً، و عدم وجود ولاية لليهود في جنبه بمعنى الزعامة والقيادة.
و لذلك رأى أهل السنّة أنّ هذا الترجيح أقرب لواقع الحال في حينه.
اضافة إلى ذلك فانّ السياق و هو الآيات التي سبقت هاتين الآيتين والآيات التي أعقبتها جاءت تحذر من كيد اليهود و تندد بمن أصر على استمرار التحالف معهم، أمثال عبد اللّه بن أُبي، زعيم المنافقين في حينه. والأصل عند أهل السنة أنّ الآية تعتبر جزءاً من سياقها إلاّإذا وردت القرينة على أنّها جملة اعتراضية تتعلق بموضوع آخر على سبيل الاستثناء، وهو أُسلوب من أساليب البلاغة عند العرب جاءت في القرآن الكريم على مستوى الإعجاز.
عرض و تحليل
هذا نصّ الأُستاذ وحاصله يرجع إلى أمرين:
1. انّ لفظ الولاية مشترك بين عدّة معان، فلا سبيل إلى حملها على القيادة والزعامة إلاّ بدليل.
2. انّ سياق الآيات يؤكد على حملها على ذلك المعنى أي النصرة و الود والحب و التحالف.و الأخير هو المناسب.
هذا عرضاً موجزاً لمقاله و إليك تحليله:
يلاحظ على الوجه الأوّل:
نحن نفترض انّ الولاية مشتركة بين المعاني المختلفة، و لكن القرائن القاطعة تدل على أنّ المراد منها هو التصرف، لما عرفت.
أوّلاً: انّ الولاية بالمعنى الواحد نسب إلى اللّه و إلى رسوله و الّذين آمنوا.
أفيصحّ لنا أن نحصر ولاية اللّه سبحانه بالنصر و الود و الحب و التحالف، فانّ ولايته سبحانه ولاية عامة تشمل جميع ما يعدّمظاهر لها.
فإذا كانت الولاية منسوبةً بمعنى واحد إلى الثلاثة فيجب أن تفسر بمعنى واحد،لا أن تُفرز الولاية المنسوبة إلى اللّه عمّا نسبت إلى الآخرين.
و ثانياً: لو فسرنا الولاية بالنصر و الود و التحالف، فيلزم اتحاد الولي والمولّـى عليه، إذ لو كان المؤمنون المصلون المزكون أولياء فمن المولّى عليه إذن؟
و بعبارة أُخرى انّه سبحانه يعدّ جميع المؤمنين أولياء فيجب أن يكون هناك مولّى عليه غيرهم و ليس هناك شيء… و « لا قرية وراء عبادان».
ثالثاً: لو فسرنا الولاية بالنصر و الود و التحالف، فالمؤمنون كلّهم في صفّ واحد، فلماذا قيد الولاية بالزكاة في حالة الركوع ؟ فلو افترضنا أنّ مؤمناً صلّى و زكّى في غير حال الصلاة ـ و ما أكثرهم ـ أو يصح لنا إخراجهم عن عداد الأولياء.
كلّ ذلك يدلنا بوضوح على أنّ الآية وردت في جمع أو فرد خاص عبّر عنه بصيغة الجمع، و ما أكثر نظيره في القرآن حيث عبر عن المفرد بالجمع.
قال سبحانه: ( الّذِينَ قَالُوا إنَّ اَللّه فَقِيرٌ و نَحنُ أغنِياء ) والقائل هو فتحاس اليهودي ( [927]).
قال سبحانه: ( و منهُمُ الّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ و يَقُولُونَ هُوَ أُذُن ) ( [928]). نزل في رجل من المنافقين ( [929]) .
إلى غير ذلك من الآيات التي يطول المقام بنقلها.
فقد وردت صيغة الجمع في عشرين آية و أُريد منها شخص واحد.
فهذه الوجوه الثلاثة تصدنا عن تفسير الولاية بغير الزعامة و القيادة، فانّها المعنية بقوله سبحانه: ( أمِ اتّخَذُوا مِن دُونِهِ أولِياءَ فاللّهُ هُوَ الوَلِيُّ ) ( [930]).
وقال سبحانه: ( مالَكُم مِن دُونِهِ مِن وَلِىّ و لاَ شَفِيع أفَلاَ تَتَذَكَُّرون ) ( [931]).
و قال سبحانه: ( أنتَ وَلِيّي فِي الدُّنيا وا لآخِرَة ) ( [932]).
وقال سبحانه: ( فما لَهُ مِن وَلِىّ مِن بَعْدِه ) ( [933]).
وقال سبحانه: ( و اللّهُ وَلِيُّ المُؤمِنين ) ( [934]).
غير انّ ولاية اللّه سبحانه ولاية ذاتية، و ولاية غيره بالجعل و النصب والافاضة.
و يشير إلى ولاية الرسول بقوله: ( النَّبِيُّ أَوْلَى بالْمُؤْمِنِينَ من أَنْفُسِهِم ) ( [935]).
و إلى ولاية الرسول وأُولي الأمر بقوله: ( أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُوْلي الا َمْرِ مِنْكُمْ ) ( [936]).
و من يريد تفسير ولاية اللّه و الرسول بالحب و الحلف و قصرها في إطار ضيق بالنصر، فقد أخرج الآية عن ذروة البلاغة إلى حدّنازل.
فكما انّ السياق جزء من التفسير، و سبب يستعان به على كشف المراد، فكذلك الخصوصيات الموجودة في نفس الآية أدلّ دليل يرشد القارئ إلى التعمق في مراده سبحانه.
فعلى من يفسر الآية بغير الأولوية في التصرف فعليه الإجابة عن الأُمور الثلاثة السالفة.
هذا كلّه حول الأمر الأوّل و أمّا الكلام في السياق الذي تمسك به فنقول:
مشكلة السياق عند الكاتب
انّ الكاتب القدير إنّما ترك الروايات المتضافرة لأجل صيانة السياق، وإليك توضيح دليله و تحليله:
قال سبحانه: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض وَمَن يَتَوَلَّهُم مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُم إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) ( [937]). وقال سبحانه: ( إِنّما وَلِيُّكُمُ اللّه و رَسُولُهُ و الّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَة و يُؤتُونَ الزّكاَةَ وَهُمْ راكِعُونَ ) ( [938]).
وقال سبحانه: ( يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الّذِينَ أُوتُواْ الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَ الْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَ اتَّقُواْ اللّهَ إن كُنتُم مُؤْمِنِينَ ) ( [939]).
ذكر المفسرون انّ نزول الآية الأُولى في حقّ عبادة بن صامت الخزرجي و عبد اللّه بن أُبي حيث إنّ الأوّل تبّـرأ من أوليائه من اليهود، بخلاف الثاني فانّه لم يتبّـرأ من ولاية اليهود، و قال: لأنّي أخاف الدوائر.
و ذكروا في سبب نزول الآية الثانية: انّه لما تصدّق عليّ (عليه السلام) بخاتمه في الصلاة و هو راكع نزلت الآية الكريمة.
و ذكروا في سبب نزول الآية الثالثة أنّها نزلت في رفاعة بن زيد و سويد بن الحرث اللّذين أظهرا إسلامهما ثمّ نافقا، و كان رجال من المسلمين يوادونهما فنزلت الآية.
فبما انّ الولايةَ في الآية الأُولى ليست بمعنى الزعامة بل بمعنى الود والنصر أو الحلف كما هو الحال في الآية الثالثة، فمقتضى السياق يقتضي تفسير الآيةَ الثانية بهما لا بالزعامة.
هذا ما يتبناه الكاتب و قد سبقه الرازي في تفسيره. ( [940]) غير انّا نركز على أمرين و بهما يتجلى انّ تفسير الولاية في الآية الثانية بالزعامة لا يستلزم مخالفة السياق.
الأوّل: انّ الغوص في غمار اللغة و مجاميع الأدب وجوامع العربية يدفعنا إلى القول بأنّه ليس للولي في الآيات الثلاث إلاّ معنى واحد و هو الأولى بالشيء و لو أُطلق على الناصر والمحب والزعيم فانّما أُطلق بمعنى واحد، و لو كان هناك اختلاف فإنّما هو في جانب المتعلّق.
و بعبارة واضحة: ليس للولي معان مختلفة وضع لها اللفظ بأوضاع متعددة حتى يصبح اللفظ مشتركاً لفظياً بين المعاني المتباينة. بل هو موضوع لمعنى واحد جامع بين مصاديق و موارد مختلفة، فلو كان هناك اختلاف فإنّما هو في المتعلق والمورد، لا في المفهوم والمعنى.
فالربّ ولي لأنّه أولى بخلقه من أي قاهر عليهم حيث خلق العالمين كما شاءت حكمته و يتصرف فيهم بمشيئته.
و كل من المحب و الناصر ولي، لأنّ كلاّ ً منهما أولى بالدفاع عمّن أحبه و نصره.
و الزعيم و القائد ولي، لأنّه أولى بأن يتصرف في مصالح من تولّـى أمره.
فإذا كان للفظ معنى واحد فلا يكون هناك أي اختزال مهما ذهبنا إلى التفريق بين الآيات الثلاثة، فانّ المفروض انّ لكلّ شأناً و سبباً للنزول، و بينها جامع و هو الأولوية المطلقة كما في الآية الثانية و المقيدة كما في الآية الأُولى والثالثة.
هذه حقيقة لغوية قد نصّ عليها المحقّقون. قال الإمام أبو الفتح المطرزي: الولي: كلّ من ولي أمر واحد فهو وليه، و منه ولي اليتيم أو القتيل: مالك أمرهما، و والي البلد: ناظر أُمور أهله و مصدرهما الولاية (بالكسر). ( [941])
و ألفت نظر الأُستاذ السامي إلى أنّ النهي عن تولى اليهود و النصارى والكفّار في الآيات التي تقدّمت أو تأخّرت، لا يرجع إلى التولي المجسّد في مجرد العطف القلبي و لا يتلخص في الحنان الروحي، فانّهما أمران قلبيان خارجان عن الاختيار ، فانّ حب الأب أو الأُم و إن كانا كافرين أمر جبلي لا يصحّ النهي عنه بل يرجع إلى التولي المستعقب، للتصرف في أُمور المسلمين والتدخل في مصالحهم الذي ليس إلاّمن شأنه سبحانه و رسوله و من عيّنه الرسول بأمر منه.
فالآيات بأجمعها سبيكة واحدة، تصد المؤمنين عن اتخاذ أيّولي ـ غير اللّه و رسوله ـ يتصرف في أُمورهم و إن كان سببه التحالف فلو صار الحلف بين المسلمين والكافرين سبباً لولاية الكفّار على المسلمين و تدخلهم في أُمورهم فهو ممنوع لانّه لا ولي للمؤمنين إلاّاللّه و من نصبه سبحانه.
و الذي يرشدنا إلى أنّ الولاية في الآية: ( إنّما وليكم اللّه و رسوله… ) بمعنى الزعامة و القيادة، هو انّه سبحانه يقول بعدها: ( وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَالّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ) ( [942]) فيطرح حزب اللّه أوّلاً، ثمّ غلبته على سائر الأحزاب، والكلّ يناسب القيادة والزعامة، لا مجرد الحب والود، أو النصر والحلف.
الثاني: انّ في نفس الآيات الثلاثة قرينة واضحة على الاختلاف في تفسير الولي (لو قلنا بانّه اختلاف في المفهوم)، و ذلك انّه سبحانه يجمع لفظ الولي في الآية الأُولى و الثالثة.
فقال في الأُولى: ( لا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ و النَّصَارى أَوْلِيَاءَ ) .
وقال في الثالثة: ( و الكفّار أولياء ) .
و لكنّه نرى انّه سبحانه أتى بها بلفظ المفرد في ثانية الآيات.
وقال: ( إِنّما وليّكم اللّه… ) فما هو الوجه في الإتيان بالجمع في الآيتين والإفراد في الثانية؟ و الإمعان فيه يدلنا على التغاير في تطبيق معنى الولي، و ذلك لأنّ الولاية في الآيتين ترجع إلى الحب والنصر و بما انّها متعددة حسب تعدد المحب و الناصر فهناك ولايات و أولياء، و لأجل ذلك أتى سبحانه بلفظ الجمع.
وأمّا الآية الثانية فهناك ولاية إلهية سماوية خصّها سبحانه بالذات لنفسه وأفاضها بالتشريع على رسوله و من جاء بعده و لذلك أتى بلفظ المفرد فيحمل على الولاية الملازمة للقيادة والزعامة.
و آخر كلمة أقدمها إلى الأُستاذ، انّه لو كانت الولاية بمعنى الحب و النصر فما معنى تقييد الولي بايتاء الزكاة و هم راكعون فانّ كلّ مؤمن يقيم الصلاة و يؤتي الزكاة ولي لأبناء أُمّته، زكّى في حال الركوع أم لا ، مع أنّنا نرى انّه سبحانه يشير إلى الولي بعلامة خاصة تميّزه عن غيره و هو إيتاء الزكاة في حال الركوع، و الركوع حقيقة في الصورة المعلومة منه في الصلاة لا في مطلق الخضوع إذ مع أنّه خلاف الظاهر، ينافيه قوله سبحانه: ( يقيمون الصّلاة ) .
على أنّ الأُستاذ تفرد في تفسير الولاية بالتحالف، فإنّ أهل السنة يفسرونها بالودّ و الحب و النصر ـ لاحظ التفسير الكبير للرازي.
هذا غيض من فيض و قليل من كثير ممّا أفاضه علماؤنا و أصحابنا في تفسير الآية و إن كان ما ذكرناه مقتبساً من أنوار علومهم. غفر اللّه للماضين من علماء الإسلام و حفظ اللّه الباقين منهم و رزقنا اللّه توحيد الكلمة كما رزقنا كلمة التوحيد.
والسّلام عليكم و على من حولكم من الدعاة إلى الوحدة الإسلامية لترفرف في ظلّها راية الإسلام خفاقة في ربوع العالم و إرجاء الدنيا بإذن منه سبحانه.
جعفر السبحاني
مؤسسة الإمام الصادق (عليه السلام)
1/ شعبان المعظم 1417 هـ
br> [877] . حزاب : 33 .
[878] . يس : 822 .
[879] . المائدة : 66 .
[880] . الأنفال : 111 .
[881] . البقرة : 2222 .
[882] . التوبة : 1088 .
[883] . آل عمران : 422 .
[884] . المائدة : 900 .
[885] . الأنعام : 1455 .
[886] . الحجّ : 33 .
[887] . التوبة : 955 .
[888] . يونس : 1000 .
[889] . الأنعام : 1255 .
[890] . التحريم : 44 .
[891] . الأحزاب : 333 .
[892] . الأحزاب: 344.
[893] . الأحزاب: 533.
[894] . هود : 700 .
[895] . الذهبي ، ميزان الاعتدال : 3 / 93 ـ 97 ; سير اعلام النبلاء : 5 / 18 ـ 222 .
[896] . النور : 36 ـ 377 .
[897] . الشرح الحديدي : 4 / 102 ; سير اعلام النبلاء : 4 / 421 ـ 4277 .
[898] . الأحزاب : 288 .
[899] . الأحزاب: 299.
[900] . الأحزاب: 300.
[901] . الأحزاب: 311.
[902] . الأحزاب: 322.
[903] . الأحزاب: 333.
[904] . الأحزاب: 344.
[905] . ميزان الاعتدال : 3 / 933 .
[906] . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 4 / 699 .
[907] . ميزان الاعتدال : 4 / 1733 .
[908] . المنار : 2 / 4511 .
[909] . الكاشف : 6 / 2177 .
[910] . يوسف : 28 ـ 299 .
[911] . الأحزاب : 300 .
[912] . الأحزاب: 322.
[913] . الأحزاب: 333.
[914] . الأحزاب: 300.
[915] . الأحزاب: 322.
[916] . الأحزاب: 333.
[917] . التكاثر : 5 ـ 66 .
[918] . مفاهيم القرآن :3/ 401ـ 4055.
[919] . المائدة: 55 ـ 566.
[920] . رواه السيد البحراني عن الحافظ أبو نعيم الاصبهاني عن كتابه الموسوم بـ « نزول القرآن في أمير المؤمنين » ص 1066.
[921] . تفسير الطبري6/ 1866.
[922] . أحكام القرآن:2/5422 و رواه من عدة طرق.
[923] . معرفة أُصول الحديث ، ص 1022.
[924] . أسباب النزول، ص 1488.
[925] . لاحظ المراجعات للسيد شرف الدين العاملي، المراجعة الأربعون، ص 162ـ 168 و الغدير لشيخنا الأميني :3/1622 و قد رواه من مصادر كثيرة.
[926] . التوبة: 611.
[927] . راجع تفسير القرطبي: 4/ 2944.
[928] . التوبة: 611.
[929] . تفسير القرطبي: 8/ 1922.
[930] . الشورى: 99.
[931] . السجدة: 44.
[932] . الشورى: 1011.
[933] . الشورى: 444.
[934] . آل عمران: 688.
[935] . الأحزاب: 66.
[936] . النساء: 599.
[937] . المائدة: 511.
[938] . المائدة: 555.
[939] . المائدة: 577.
[940] . التفسير الكبير : للفخر الرازي:12/ 266.
[941] . المطرزي: المغرب:2/3722
[942] . المائدة: 566.