العائلة والإنجاب

العائلة والإنجاب

إنتاج الأبناء هي الوظيفة الرئيسية للعائلة بل هي الوظيفة الأساسية فيها، فالمبررات الأخرى للزواج وعن أهمها اللذة الجنسية إنما هي في واقعها حوافز لدفع الإنسان للتضحية بحريته والإقدام على ربط نفسه بشخص أخر مدى الحياة، لينجبا معاً أجيالاً جديدة تعمر هذه الأرض وتؤدي مراسم الطاعة لخلق هذا الكون ولذلك رأينا في الأعداد الماضية كيف أن الأمور التي اعتبرها علماء الاجتماع وظائف للعائلة قد تخلت العائلة عن القيام بها سواء كان هذا التخلي طوعياً أو عن طريق تدخل المجتمع، فحتى إشباع الغريزة الجنسية اصبح ممكناً للفرد عن غير طريق العائلة أما عن طريق البغاء الرسمي أو عن طريق الصداقات، ولم يعد الفرد الذي لا يصر في الكون إلا المادة محتاجاً إلى العائلة لتوفر له ذلك.

أما الأبناء فلا يتمكن المجتمع توفيرهم للفرد، بل لا تعترف المجتمعات بالبنوة إلا إذا جاءت عن طريق الازدواج المشروع، ولقد أخفقت كل محاولات المجتمع الدولي لحمل المجتمعات على قبول فكرة التبني كأمر طبيعي كما أخفقت تلك الجهود التي تبذلها الأمم المتحدة في هذا السبيل فمفاهيم الأبوة والنبوة والأخوة والأمومة مقترنة في أذهان بني البشر بوجود العائلة القائم على التعاقد بين شخص يجوز لهما شرعاً إنشاء العلاقة، ولذلك نستطيع القول بجزم أن العائلة لن تتخلى عن هذه الوظيفة لأنها وظيفتها الطبيعية والغاية القصوى لوجودها، ويوم تتخلى العائلة عن هذا الأمر وينقل المجتمع هذه الوظيفة لأنها وظيفتها الطبيعية والغاية القصوى لوجودها، ويوم تتخلى العائلة عن هذا الأمر وينقل المجتمع هذه الوظيفة عن كاهل العائلة إلى المصانع والمختبرات فإن العائلة ستكون ملغية وستتحقق نبؤة (انجلز) بأنه سوف يأتي يوما لا تهتم المرأة بأي رجل يصيبها.

ومن أجل ذلك قلت في عدد مضى لا توجد فكرة مضرة ببقاء العائلة كمؤسسة اجتماعية مقدسة كفكرة تحديد النسل، ذلك أن الرجل الذي يوافق على استعمال موانع الحمل من دون مبرر طبي ضروري إنما يجرد العملية الجنسية من معناها الأخلاقي والاجتماعي ويحولها إلى مجرد لعبة لذيذة تنتهي نتائجها بالفراغ منها، بل هو يركز في نفسه بأن المرأة التي تضاجعه ليست إلا أداة للقيام بهذه اللعبة، وما ينطبق على الرجل هنا ينطبق على المرأة.

وما دامت قد تعرضت لفكرة تحديد النسل فلا بأس أن نلم بشيء عن تاريخها وتطورها ومبرراتها وما ستترتب على تطبيقها من نتائج.

ولعل أول أو من نادى بهذه الفكرة هو الاقتصادي الإنجليزي المتشائم توماس روبرت مالش وقد كان الرجل قسيساَ في أحد الكنائس البريطانية ثم تحول إلى علم الاقتصاد وقد أدى به تشاؤمه إلى القول بأن الناس إذا زادوا عن حد معين فوق هذه الأرض فسيموتون جميعاً من الجوع، وذلك لأن التكاثر في السكان يخضع لمثولية هندسية بينما الزيادة في موارد الغذاء تسير وفقاً لمثولية عددية، ويقول مالش في هذا الصدد في كتابه (مقال مبدأ السكان) المطبوع عام ۱۸۰۳ ما نصه، (أن هناك غرضين أولهما ضرورة الغذاء لبقاء الإنسان وثانيهما الشهوة بين الجنسين ضرورية وستظل تقريباً على حالتها الراهنة) ما دمنا حسب هذا القول لن نتمكن من تطوير موارد الغذاء كما لا نتمكن من تطوير موارد الغذاء كما لا نتمكن من الحد من الشهوة بين الجنسين فلا بد لنا من الحد في الأنسال والتكاثر في السكان. ويرى مالش أن التأريخ قد أثبت بأن الضغط المتصل من جانب السكان على موارد المعيشة لم يكن يخلف منه سوى الحروب والأوبئة والمجاعات.

ويطالب مالش بأن لا تعلو أجور العمال فوق مستوى الكفاف وإلا فسوف تتدخل الطبيعة في الموضوع ويفسر هو تدخل الطبيعة في هذا الموضوع بأن زيادة الأجور عن حد مستوى الكفاف يعبئ أن زيادة في النسل ستقع وعندئذٍ يزيد العمال وإذا زاد العمال هبطت الأجور إلى أقل مستوى الكفاف فيقضى الموت على الفائض من العمال ليعود ميزان الأجور إلى مستوى الكفاف هذا ما يعرف بالقانون الحديدي للأجور في علم الاقتصاد.

هذه النظرية إنما جاءت نتيجة لتشائم الرجل، فقد كان مالش معروفاً بالتشائم الشديد بين علماء عصره، وإلا فهي لا تتفق حتى ومعتقده كرجل دين ويقول جورج سول: (أن مالش كان يحس أن عليه أن يجد تفسيراً معقولاً للمشكلات الاجتماعية الظالمة بوصفه من رجال الدين)، ولما كانت الديانة المسيحية خلوا تماماً من نظام اقتصادي أو دنيوي ذهب يخبط في علم الاقتصاد متبعاً آثار آدم سميث ومضيفاً إلى ذلك طبيعته التشاؤمية.

ومن أن انطلقت هذه النظرية صفقت لها المؤسسات الصهيونية، فقد وجدت فيها وسيلة للقضاء على جانب كبير من الأخلاقية في الحياة الاجتماعية، ومبرراً كبيراً لاسكات الشعوب عن المطالبة بتطوير موارد العيش وكرست لها المؤسسات والعلماء والمبشرين ووجد رؤساء الدول في هذه الفكرة مخدراً كبيراً يلهى الناس عن التمعن في إهمالهم لزيادة الدخول القومية، فما دمتم تكثرون من التوالد فإن موارد العيش لن تكفيكم، ولم تكن استفادة الحكام والدول من هذه الفكرة بأقل من استفادة شركات العقاقير والأدوات الطبية فراحت تجند لها حشوداً كبيرة من الأطباء ليبثوا في أذهان الناس وجوب تعاطي العقاقير الطبية المعيقة للحمل.

وأما بالحجة الاقتصادية السالفة الذكر، والنتيجة المنطقية والنفسية التي تنتج من كل هذه الضجة التي تقيمها الهيئات الدولية الخاضعة للصهيونية العالمية أو المتأثرة بها أنه يجب على الفقراء لا يزيدوا أعدادهم حتى لا يزيدوا أعدادهم حتى لا تتضايق الدول وتقلص من مصروفاتها، أو تضطر لأعمار الأراضي وإنشاء المشاريع الإنمائية.

ولست أحاول في هذا المقام تفنيد حجج دعاة تحديد النسل أو تنظيم النسل كما اطلقلوا مؤخراً ليطفوا العبارة، فحسبي أن الناس لم يفهموا مثل هذه الدعوات الهدامة والمنافية للطبيعة البشرية.

أن محاولتي هنا تنحصر في الجواب على سؤال، هل أن الأمة العربية في الفترة الراهنة تقتضي مصلحتها إطلاق طاقة الأنسال والتكاثر لدى السكان على أشدها أو أنها تقتضي أن تحد من هذه القوة؟

إذا ألقينا نظرة واحدة على خارطة العالم فسنستنتج منها

۱٫ الرقعة التي يحتلها العرب من العالم والتي يطلق عليها رسمياً البلاد العربية تمثل خمس العالم فهي تمتد من البحر العربي والمحيط الهندي شرقاً وتنتهي بالمحيط الأطلسي غربا وتنحصر بين خطي الطول عشر درجات غرباً إلى خط الطول ۶ درجة

۲٫ إن طبيعة هذه الأرض تختلف بين مكان ومكان ففيها المناطق الجبلية والسهول المنخفضة والصحاري الرملية وتختلف بذلك منتجاتها الطبيعية فمن مناجم المعادن إلى آبار النفط إلى الشوط والأنهار وخزائن المياه الجوفية.

۳٫ إن عدد السكان في الوقت الحاضر لا يزيد على أحسن فروضه ومع المغالات فيه عن مائة وعشرين مليون نسمة مقسمة بين دول إقليمية مختلفة وموزعين على هذه الأرض على شكل مجموعات صغيرة فيها.

وإذا أجمعنا هذه الحقائق فإنه يتضح لنا أن من غير الإمكان للعرب أن يستغلوا الموارد الطبيعية الموجودة في هذه الأراضي الشاسعة ماداموا بهذه القلة، فكل هذه الصحارى الشاسعة هي مناطق صالحة للزراعة إذا ما استخرجت مياهها الجوفية أو جمعت فيها الأمطار في سدود، إلا أن اليد العاملة سوف لن تكفي للقيام بمثل هذه المشاريع كما أن الأنهار الفرعية والترع لري جزء كبير من الصحاري العربية، جمهورية مصر التي طالما تأففت من تزايد سكانها وطالبتهم بالحد من الانسال وكرست لذلك صحفها وسائر وسائل إعلامها، لا تزال في أكثر أجزائها خالية من السكان حتى أننا لو ألغينا الحدود السياسية واعتبرنا الدول لا تتعدى حدودها المساحات المأهولة لعادت مصر شريطاً ضيقاً في متاهة لا حد لها.

وربما يحتج بعض المدافعين عن التقصير في مثل هذه الناحية بأن الصحاري الموجودة في القارة الأفريقية تختلف عن الصحاري في الجزيرة العربية فبينما صحاري الجزيرة العربية صالحة للزراعة ولا ينقصها غير الماء والعمال..فإن صحاري الجزيرة مصر غير صالحة للزراعة مطلقاً، وقد يكون في هذا القول نصيب من الصحة، إلا أن طبيعة الأرض المصرية كلها واحدة، فحتى هذا الشريط الضيق المعمور من مصر لم يكن ليصلح للزراعة لولا بركة النيل ولذلك قيل في القديم أن مصر هبة النيل، ولو أن مياه النيل المتدفقة إلى البحر وجهة نحو الصحراء لا صلحت أرضها بما تحمله من الظمى الغرين لأخصبت فما على المصريين إلا أن يشقوا الأنهار والترع وينقلوا السكان من هذا الشريط الضيق لينتشروا في أرض الله الواسعة التي وهبها لهم وبذلك يزول الاحتياج إلى المطالبة بتحديد النسل.

وهذان الرافدان وهما من أكثر أنهار الأرض خيراً وبركة وقد كانا في العهود الإسلامية يقومان بإطعام أربعين مليوناً من الناس ويصدر بقية حاصلهما إلى خارج العراق عجزاً اليوم عن الطعام ثمانية ملايين من البشر وتحولت تلك الأراضي التي كانت قبل ألف من السنين خصبة إلى أرض متربة تضطر إذا سافرت في وسطها أن تغلق نوافذ سيارتك حتى لا يخنقك الغبار. ثم لماذا تترك مياههما تصب في الخليج ليلاً ونهاراً أليس بالإمكان أن يشق نهر من موضع التقائهما في القرنه ليتجه إلى شبه الجزيرة ليتروى منه الدهناء والنفوذ وتهاق بدلاً من ضياع كل هذه المياه، كل هذه الأمور ممكنة إذا توفرت الطاقات البشرية، وإن العالم ليسألنا لماذا لا نستغل هذه الأرض الطيبة والقادرة على الإنتاج في وقت تكون فيه الدنيا أحوج ما تكون إلى طعام وإلى ملبس وإذا بقينا عاجزين عن القيام بمثل هذا العمل للعالم فهل سنترك محتفظين بأرضنا؟

إن الفراغ السياسي الذي أشار إليه ايزنهاور في يوم من الأيام هو في واقعة تعبير عن الفراغ البشرى في هذه الرقعة الواسعة من الكرة الأرضية. إن صيغة إنذار (إذا كنتم عاجزين من خيرات أرضكم لتساهموا في دفع الجوع فإن عليكم أن تتخلوا للقادرين على ذلك أن يفعلوا)

ثم أن استغلال الثروة المعدنية الهائلة الموجودة في باطن الأرض العربية واشادة الصناعة الثقيلة سوف لن نقدر على إيجادها إلا بجيوش جرارة من العمال والفنيين والخبراء وهذا لن يتأتي إلا إذا ارتفع عدد السكان إلى ضعف ما هو الموجود على الأقل، وإلا فإننا سنضطر إلى بيعها للغير على شكل مواد خام ثم نعود ونشتريها منهم بما دفعوه من أثمان ازاءها قبل التصنيع فالدعوة إلى تحديد النسل مهما البست من صور ومهما اخترع لها من مبررات هي دعوة ضارة بنا في الوقت الحاضر على الأقل.

والأخطر من كل ما مر والذي سوف تحقق جزما إذا رضينا أن نسير في مخطط دعاة تحديد النسل هو ما سيصيبنا من انحصار اجتماعي قد بدت بوادره يخشى منه القضاء على عروبتنا قضاءاً تاماً إن لم يكن القضاء عليها كلياً. ولشرح هذه الفكرة لا بد من التبسط في القول ولو بمقدار ما تتحمله الصفحات المخصصة لمثل هذا الموضوع، يقول علماء الطبيعة أن الإعصارات الهوائية تحدث بسبب وجود قطعتين من الأرض متقاربتين إحداهما تكون ذات ضغط منخفض والأخرى ذات ضغط مرتفع، ولا إشكال في أن هواء الأرض ذات الضغط المرتفع يكون مخلخلاً وتحدث فيه فجوات فعندئذٍ لابد أن تملأ هذه الفجوات بالهواء لعدم المكان وجود الخلاء فيندفع الهواء الموجود في الأرض ذات الضغط المنخفض لملأ هذا الخلاء ويكون اندفاعه شديداً بحيث يتلف كل ما صادفه من الأشياء وهذا الهواء المندفع بقوة هو ما يسمى بالإعصار.

والأعاصير الاجتماعية كما يقول العلماء الاجتماع لا تختلف في طريقة تكونها عن الأعاصير الطبيعية، فإذا وجد مكانين في المجتمع أحدهما متخلخل الكثافة والثاني شديد فلا بد أن يتجه الناس من الموضع الذي تشتد فيه كثافة السكان إلى الموضع الذي تخلخل فيه الكثافة السكانية فيحدث ما يسمى بالإعصار الاجتماعي الذي يكون على شكل ثورة أو انقلاب إذا كانت الحركة في مجتمع واحد، أو على صورة تسلل أو غزو إذا كانت الحركة من مجتمع إلى مجتمع آخر.

وإذا نظرنا إلى البلاد العربية وما يجاورها من البلدان الأخرى لوجدناها تكون مكانين إحداهما ذات ضغط سكاني مرتفع والأخرى ذات ضغط سكاني مرتفع فالكثافة السكانية في الهند والصين وأفريقيا وأوروبا والفراغ الهائل في البلاد العربية، كل هذه دلائل تبشر بمستقبل مخيف وقد ابتدأت فعلاً بوادر هذا المستقبل فالمنامة ودبي وأبو ظبي وقطر تتحول تدريجاً إلى صورة هندية الرطانة والأكل وغير ذلك بل أنك لتستغرب وأنت ترى هذه الحشود الهائلة من الهنود الذين وفدوا على البلاد. والتسلل الأفريقي في موريتانيا وغيرها من البلاد العربية والأفريقية كلها تبشر على أن حركة تنقل عالمية سوف تحصل إذا لم يتلاف الأمر، ولا يمكن الحيلولة دون وقوع ذلك إلا أن تزايد الكثافة السكانية عما هي عليه الآن، لأننا سوف لن نستغني عن الأيد العاملة بالمرة كما لا يمكن الحيلولة دون التسلل وإلا لحدث غزو اجتماعي كما حدث في القرون الوسطى في أوروبا إذ غزت القبائل الجرمانية والسكسونية المملكة الرومانية وكما غزا الأوروبيون القارة الأمريكية ليبيدوا سكانها الأصليين، لابد إذا أن نطلق طاقة الأنسال على اشدها وإن نجهد أنفسنا في عمارة الأرض بدل من بذل الجهد فيما لا فائدة فيه.

المصدر: الشیعه

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.