السماء رفعها ووضع المیزان

السماء رفعها ووضع المیزان

آية الله العظمى مكارم الشيرازي

7 ) وَ السَّماءَ رَفَعَها وَ وَضَعَ الْمِیزانَ

هذه الآیات هی استمرار لبیان النعم الإلهیّة التی جاء ذکر خمس منها فی الآیات السابقة، حیث تحدّثت عن أهمّ الهبات التی منحها الله سبحانه.

وفی الآیة مورد البحث یتحدّث سبحانه عن النعمة السادسة، ألا وهی نعمة خلق السماء حیث یقول: (والسّماء رفعه).

(السماء) فی هذه الآیة سواء کانت بمعنى جهة العلو، أو الکواکب السماویة، أو جو الأرض (والذی یعنی الطبقة العظیمة من الهواء والتی تحیط بالأرض کدرع یقیها من الأشعّة الضارّة والصخور السماویة وحرارة الشمس، والرطوبة المتصاعدة من میاه البحار لتتکوّن الغیوم وتنزل الأمطار)… إنّ کلّ واحدة من هذه المعانی هبة عظیمة ونعمة لا مثیل لها، وبدونها تستحیل الحیاة أو تصبح ناقصة.

نعم إنّ النور الذی یمنحنا الدفء والحرارة والهدایة والحیاة والحرکة یأتینا من السماء وکذلک الأمطار، والوحی أیضاً، وبذلک فإنّ للسماء مفهوماً عامّاً، مادیّاً ومعنویاً).

وإذا تجاوزنا کلّ هذه الاُمور، فإنّ هذه السماء الواسعة مع کلّ عوالمها هی آیة عظیمة من آیات الله، وهی أفضل وسیلة لمعرفة الله سبحانه، وعندما یتفکّر اُولو الألباب فی عظمتها

فسوف یقولون دون إختیار (ربّنا ما خلقت هذا باطل).(1)

ثمّ یستعرض سبحانه النعمة السابعة حیث یقول تعالى: (ووضع المیزان).

«المیزان» کلّ وسیلة تستعمل للقیاس، سواء کان قیاس الحقّ من الباطل، أو العدل من الظلم والجور، أو قیاس القیم وقیاس حقوق الإنسان فی المراحل الاجتماعیة المختلفة.

و (المیزان) یشمل کذلک کلّ نظام تکوینی ودستور اجتماعی، لأنّه وسیلة لقیاس جمیع الأشیاء.

و «المیزان» لغة: (المقیاس) وهو وسیلة لوزن الأجسام المادیّة المختلفة، إلاّ أنّ المقصود فی هذه الآیة، ـ والذی ذکر بعد خلق السماء ـ أنّ لها مفهوماً واسعاً یشمل کلّ وسیلة للقیاس بما فی ذلک القوانین التشریعیّة والتکوینیة، ولیس وسیلة منحصرة بقیاس الأوزان المادیّة فقط.

ومن هنا فلا یمکن أن تکون الأنظمة الدقیقة لهذا العالم، والتی تحکم ملایین الأجرام السماویة بدون میزان وقوانین محسوبة.

وعندما نرى فی بعض العبارات أنّ المقصود بالمیزان هو «القرآن الکریم»، أو «العدل»، أو «الشریعة»، أو «المقیاس». ففی الحقیقة إنّ کلّ واحدة من هذه المعانی مصداق لهذا المفهوم الواسع الشامل.

ونستنتج من الآیة اللاحقة استنتاجاً رائعاً حول هذا الموضوع حیث یضیف بقوله تعالى: (ألاّ تطغوا فی المیزان).

حیث یوجّه الخطاب لبنی الإنسان الذین یشکّلون جزءاً من هذا العالم العظیم ویلفت إنتباههم إلى أنّهم لا یستطیعون العیش بشکل طبیعی فی هذا العالم إلاّ إذا کان له نظم وموازین، ولذلک فلابدّ أن تکون للبشر نظم وموازین أیضاً حتى یتلاءموا فی العیش مع هذا الوجود الکبیر الذی تحکمه النوامیس والقوانین الإلهیّة، خاصّة أنّ هذا العالم لو زالت عنه القوانین التی تسیّره فإنّه سوف یفنى، ولذا فإنّ حیاتکم إذا فقدت النظم والموازین فإنّکم ستتجهون إلى طریق الفناء لا محالة.

یا له من تعبیر رائع حیث یعتبر القوانین الحاکمة فی هذا العالم الکبیر منسجمة مع القوانین الحاکمة على حیاة الإنسان (العالم الصغیر) وبالتالی ینقلنا إلى حقیقة التوحید، حیث مصدر جمیع القوانین والموازین الحاکمة على العالم هی واحدة فی جمیع المفردات وفی کلّ مکان.

ویؤکّد مرّة اُخرى على مسألة العدالة والوزن حیث یقول سبحانه: (وأقیموا الوزن بالقسط ولا تخسروا المیزان).

والنقطة الجدیرة بالذکر هنا أنّ کلمة «المیزان» ذکرت ثلاث مرّات فی هذه الآیات، وکان بالإمکان الاستفادة من الضمیر فی المرحلة الثانیة والثالثة، وهذا ما یدلّل على أنّ کلمة (المیزان) هنا قد جاءت بمعان متعدّدة فی الآیات الثلاث السابقة، لذا فإنّ الاستفادة من الضمیر لا تفی بالغرض المطلوب، وضرورة التناسب للآیات یوجب تکرار کلمة «المیزان» ثلاث مرّات، لأنّ الحدیث فی المرحلة الاُولى، کان عن الموازین والمعاییر والقوانین التی وضعها الله تعالى لکلّ عالم الوجود.

وفی المرحلة الثانیة یتحدّث سبحانه عن ضرورة عدم طغیان البشر فی کلّ موازین الحیاة، سواء کانت الفردیة أو الاجتماعیة.

وفی المرحلة الثالثة یؤکّد على مسألة الوزن بمعناها الخاصّ، ویأمر البشر أن یدقّقوا فی قیاس ووزن الأشیاء فی التعامل، وهذه أضیق الدوائر.

وبهذا الترتیب نلاحظ الروعة العظیمة للإنسجام فی الآیات المبارکة، حیث تسلسل المراتب وحسب الأهمیة فی مسألة المیزان والمقیاس، والإنتقال بها من الدائرة الأوسع إلى الأقل فالأقل(2).

إنّ أهمیّة المیزان فی أی معنى کان عظیمة فی حیاة الإنسان بحیث إنّنا إذا حذفنا حتى مصداق المیزان المحدود والصغیر والذی یعنی (المقیاس) فإنّ الفوضى والإرتباک سوف تسود المجتمع البشری، فکیف بنا إذا ألغینا المفهوم الأوسع لهذه الکلمة، حیث ممّا لا شکّ فیه أنّ الاضطراب والفوضى ستکون بصورة أوسع وأشمل.

ویستفاد من بعض الرّوایات أنّ (المیزان) قد فسّر بوجود (الإمام)، وذلک لکون الوجود المبارک للإمام المعصوم هو وسیلة لقیاس الحقّ من الباطل، ومعیار لتشخیص الحقائق وعامل مؤثّر فی الهدایة(3). وهکذا فی تفسیر «المیزان» بالقرآن الکریم ناظر إلى هذا المعنى.

ونظراً إلى أنّ هذه الآیات تتحدّث عن النعم الإلهیّة، فإنّ وجود المیزان سواء فی نظم العالم أجمع أو المجتمع الإنسانی أو الروابط الاجتماعیة أو مجال العمل التجاری… فإنّها جمیعاً نِعَم من قبل الله سبحانه.

ثمّ ینتقل سبحانه من السماء إلى الأرض فیقول عزّوجلّ: (والأرض وضعها للأنام).

«الأنام» فسّرها البعض بمعنى (الناس)، وفسّرها آخرون بمعنى (الإنس والجنّ)، وفسّروها أیضاً بأنّها تشمل کلّ موجود (ذی روح).

إلاّ أنّ قسماً من أئمّة اللغة فسّرها بمطلق (الخلق) ولکن القرائن الموجودة فی السورة وطبیعة النداءات الموجّهة للإنس والجنّ تدلّل على أنّها المقصود هنا (الجنّ والإنس).

نعم، إنّ الکرة الأرضیة التی ذکرت هنا بعنوان هبة إلهیّة مهمّة، وفی آیات اُخرى ذکرت بعنوان (مهاد) مأوى ومستقرّ للإنسان الذی لا یدرک قدرها غالباً فی الحالات الاعتیادیة، إلاّ أنّه فی حالة حدوث تغیّر بسیط کزلزلة مدمّرة أو برکان بإمکانه أن یدفن مدینة بأکملها تحت المواد المذابة وعتمة الدخان ولهیب النار، هنا ندرک کم أنّ هدوء الأرض نعمة عظیمة، خصوصاً إذا وضعنا الأرقام التی توصّل إلیها العلماء أمامنا فیما یتعلّق بسرعة حرکة الأرض حول نفسها وحول الشمس(4)، عند ذلک یتبیّن لنا أهمیّة هذا الهدوء الکامن فی أعماق هذه الحرکة السریعة جدّاً والتی هی لیست نوعاً واحداً، بل أنواع مختلفة.

التعبیر بـ (وَضَعَ) عن الأرض فی مقابل (رَفَعَ) عن السماء، إضافةً إلى الروعة البلاغیة فی هذا التقابل فهو إشارة إلى تسخیر الأرض ومنابعها للإنسان حیث یقول سبحانه: (هو الّذی جعل لکم الأرض ذلولا فامشوا فی مناکبها وکلوا من رزقه).(5)

وبهذا الترتیب فقد ذکر لنا سبحانه النعمة العظیمة الثامنة فی هذه السلسلة.

وفی الآیة اللاحقة یستعرض ذکر النعمتین التاسعة والعاشرة من النعم الإلهیّة، والتی تتضمّن قسماً من المواد الغذائیة التی وهبها الله سبحانه للإنسان حیث یقول تعالى: (فیها فاکهة والنّخل ذات الأکمام).

«الفاکهة» تشمل کلّ نوع من الفاکهة کما یقول الراغب فی المفردات، وفسّرها البعض بأنّها تشمل جمیع أنواع الفاکهة باستثناء التمر، حیث ذکر «النخیل» فی هذه السورة بصورة مستقلّة، ویمکن أن یکون ذکر النخیل بسبب أهمیّة النخل والتمر لا استثناءً من عموم لفظ الفاکهة.

«وقد أوردنا بحثاً مفصّلا حول فوائد التمر من الناحیة الغذائیة والمواد الحیاتیة المختلفة لدى تفسیر الآیة 11 من سورة النحل، والآیة 25 من سورة مریم».

«أکمام» جمع (کِم) على وزن (جِن) تطلق على الغلاف الذی یغطّی الفاکهة.(کُمْ) على وزن (قُمْ) القسم الخاصّ بالیدین من الثوب، و(کمة) على وزن (قبة) بمعنى القبعة التی تغطّی الرأس(6).

إنّ إختیار هذا الوصف لفاکهة شجرة النخل ـ والتی تکون فی البدایة مختفیة فی غلاف ثمّ ینشقّ الغلاف عن ثمر منظود وبشکل جمیل وجذّاب ـ یمکن أن یکون لهذا الجمال الأخّاذ، أو للمنافع الجمّة الکامنة فی هذا الغلاف، فهو بالإضافة إلى کونه یقوم بمهمّة حفظ الثمرة من الآفات لحین النمو المناسب والقدرة الملائمة ویکون دوره کرحم الاُمّ الذی یحافظ على الجنین فترة زمنیة مناسبة قبل خروجه إلى عالم الدنیا… فإنّه کذلک یحوی عصارة (الأسانس) الخاصّة والتی تتمیّز بالمنافع الطبیّة والغذائیة.

کما أنّ الروعة تکمن فی الوضع الخاصّ لفاکهة هذه الشجرة أیضاً، حیث تتجمّع فی کمیّات کبیرة منها بصورة عناقید لتسهّل عملیة قطف ثمارها، ولو إفترضنا أنّ ثمار هذه الشجرة متناثرة کما فی شجرة التفاح فإنّ عملیة قطف الثمار ستکون صعبة للغایة قیاساً لطول شجرة النخل.

ثمّ یتحدّث سبحانه عن النعمة الحادیة عشرة والثانیة عشرة حیث یقول سبحانه: (والحبّ ذو العصف والرّیحان).

الحبوب مصدر أساسی لغذاء الإنسان، وأوراقها الطازجة والیابسة هی غذاء للحیوانات التی هی لخدمة الإنسان، حیث یستفید من حلیبها ولحومها وجلودها وأصوافها، وبهذا الترتیب فلا یوجد شیء فیها غیر ذی فائدة.

ومن جهة اُخرى، فإنّ الله تعالى خلق الأزاهیر المعطّرة والورود التی تعطّر مشام الجسم والروح وتبعث الاطمئنان والنشاط، ولذا فإنّ الله سبحانه قد أتمّ نعمه على الإنسان.

(الحبّ) یقال لکلّ نوع من أنواع الحبوب.

(عَصْفْ) على وزن «حرب» بمعنى الأوراق والأجزاء التی تنفصل عن النبات وینشرها الهواء فی جهات مختلفة، ویقال لها التبن أیضاً.

وذکروا أنّ «للریحان» معانی عدیدة من جملتها النباتات المعطّرة، وکذلک کلّ رزق، والمعنى الأوّل هو الأنسب هنا.

وبعد ذکر هذه النعم العظیمة (المادیة والمعنویة) ینقلنا فی آخر آیة من البحث مخاطباً الجنّ والإنس بقوله تعالى: (فبأىّ آلاء ربّکما تکذّبان) حیث یلفت نظرهم إلى کلّ هذه النعم الکبیرة التی شملت کلّ مجالات الحیاة وکلّ واحدة منها أثمن وأعظم من الاُخرى… ألا یدلّ کلّ هذا على لطف وحنان الخالق… فکیف یمکن التکذیب بها إذاً؟

إنّ هذا الاستفهام استفهام تقریری جیء به فی مقام أخذ الإقرار، وقد قرأنا فی بدایة السورة روایة تؤکّد على ضرورة تعقیبنا بهذه العبارة (لا شیء من آلائک ربّی اُکذّب) بعد کلّ مرّة نتلو فیها الآیة الکریمة: (فبأىّ آلاء ربّکما تکذّبان).

وبالرغم من أنّ الآیات السابقة تحدّثت عن الإنسان فقط، ولم یأت حدیث عن طائفة (الجنّ) إلاّ أنّ الآیات اللاحقة تبیّن أنّ المخاطب فی ضمیر التثنیة هم (الجنّ) کما سنرى ذلک.

وعلى کلّ حال، فإنّ الله تعالى یضع (الإنس والجنّ) فی هذه الآیة مقابل الحقیقة التالیة: وهی ضرورة التفکّر فی النعم الإلهیّة السابقة التی منحها الله لکم وتسألون أنفسکم وعقولکم هذا السؤال: (فبأىّ آلاء ربّکما تکذّبان) فإن لم تکذّبوا بهذه النعم، فلماذا تتنکّرون لولیّ نعمتکم؟ ولماذا لا تجعلون شکره وسیلة لمعرفته؟ ولماذا لا تعظّمون شأنه؟

إنّ التعبیر بـ (أی) إشارة إلى أنّ کلّ واحدة من هذه النعم دلیل على مقام ربوبیة الله ولطفه وإحسانه، فکیف بها إذا کانت هذه النعم مجتمعة؟

1. آل عمران، 191.
2. یقول الفخر الرازی فی تفسیره لکلمة «المیزان» فی الآیة الاُولى: إنّها اسم «آلة» بمعنى وسیلة للقیاس، وفی الآیة الثانیة جاء مصدراً (یعنی الوزن)، وفی الآیة الثالثة أتى مفعولا بمعنى (جنس الموزون).
3. رُوی هذا الحدیث فی تفسیر علی بن إبراهیم، ج 2، ص 343، عن الإمام علی بن موسى الرض(علیه السلام)والحدیث مفصّل وقد ذکر مضمونه هنا فقط.
4. سرعة الأرض حول الشمس (الحرکة الإنتقالیة) 35 کم فی الثانیة، وسرعة سیرها حول نفسها بحدود 1600 کم فی الساعة (فی المناطق الاستوائیة).
5. الملک، 15.
6. لنا بحث مفصّل فی هذا الموضوع فی تفسیرنا هذا، ذیل الآیة 47 من سورة فصّلت.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.