ما هی حمیة الجاهلیة؟!

ما هی حمیة الجاهلیة؟!

آية الله العظمى مكارم الشيرازي

إِذْ جَعَلَ الَّذِینَ کَفَرُوا فِی قُلُوبِهِمُ الْحَمِیَّةَ حَمِیَّةَ الْجاهِلِیَّةِ فَأَنْزَلَ اللّهُ سَکِینَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِینَ وَ أَلْزَمَهُمْ کَلِمَةَ التَّقْوى وَ کانُوا أَحَقَّ بِها وَ أَهْلَها وَ کانَ اللّهُ بِکُلِّ شَیْء عَلِیماً  ». سورة الفتح / الآیة 26

هذه الآیة تتحدّث مرّة اُخرى عن (مجریات) الحدیبیّة وتجسّم میادین اُخرى من قضیتها العظمى… فتشیر أوّلاً إلى واحد من أهم العوامل التی تمنع الکفّار من الإیمان بالله ورسوله والإذعان والتسلیم للحق والعدالة فتقول: (إذ جعل الّذین کفروا فی قلوبهم الحمیّة حمیّة الجاهلیة)(1).

ولذلک منعوا النّبی والمؤمنین أن یدخلوا بیت الله ویؤدّوا مناسکهم وینحروا «الهدی» فی مکّة. وقالوا: لو دخل هؤلاء ـ الذین قتلوا آباءنا وإخواننا فی الحرب ـ أرضنا ودیارنا وعادوا سالمین فما عسى أن تقول العرب فینا؟! وأیة حیثیة واعتبار لنا بعد هذا؟

هذا الکبر والغرور والحمیّة ـ حمیة الجاهلیة ـ منعتهم حتى من کتابة «بسم الله الرحمن الرحیم» بصورتها الصحیحة عند تنظیم معاهدة صلح الحدیبیّة، مع أنّ عاداتهم وسننهم کانت تجیز العُمرة وزیارة بیت الله للجمیع، وکانت مکّة عندهم حرماً آمناً حتى لو وجد أحدهم قاتل أبیه فیها أو أثناء المناسک فلا یناله منه سوء وأذى لحرمة البیت عنده، فهؤلاء ـ بهذا العمل ـ هتکوا حرمة بیت الله والحرم الآمن من جهة، وخالفوا سننهم وعاداتهم من جهة أخرى، کما أسدلوا ستاراً بینهم وبین الحقیقة أیضاً، وهکذا هی آثار حمیة الجاهلیة الممیتة!

«الحمیة» فی الأصل من مادة حَمی ـ على وزن حمد ـ ومعناها حرارة الشمس أو النّار التی تصیب جسم الإنسان وما شاکله، ومن هنا سمّیت الحُمّى التی تصیب الإنسان بهذا الاسم «حُمّى» على وزن کبرى، ویقال لحالة الغضب أو النخوة أو التعصّب المقرون بالغضب حمیة أیضاً.

وهذه الحالة السائدة فی الاُمم هی بسبب الجهل وقصور الفکر والانحطاط الثقافی خاصةً بین «الجاهلیّین» وکانت مدعاة لکثیر من الحروب وسفک الدماء!..

ثمّ تضیف الآیة الکریمة ـ وفی قبال ذلک ـ (فأنزل الله سکینته على رسوله وعلى المؤمنین)…

هذه السکینة التی هی ولیدة الإیمان والإعتقاد بالله والإعتماد على لطفه دعتهم الى الإطمئنان وضبط النفس وأطفأت لهب غضبهم حتى أنّهم قبلوا ـ ومن أجل أن یحفظوا ویرعوا أهدافهم الکبرى ـ بحذف جملة «بسم الله الرحمن الرحیم» التی هی رمز الإسلام فی بدایة الأعمال وأن یثبتوا ـ مکانها «بسمک اللّهمَّ» التی هی من موروثات العرب السابقین ـ فی أوّل المعاهدة وحذفوا حتى لقب «رسول الله» الذی یلی اسم محمّد (صلى الله علیه وآله).

وقبلوا بالعودة إلى المدینة من الحدیبیّة دون أن یستجیبوا لهوى عشقهم بالبیت ویؤدّوا مناسک العمرة! ونحروا هدیهم خلافاً للسنّة التی فی الحج أو العمرة فی المکان ذاته وأحلّوا من احرامهم دون أداء المناسک!..

أجل، لقد رضوا بمرارة أن یصبروا إزاء کلّ المشاکل الصعبة، ولو کانت فیهم حمیّة الجاهلیة لکان واحد من هذه الاُمور الآنفة کفیلاً أن یشعل الحرب بینهم فی تلک الأرض!

أجل… إنّ الثقافة الجاهلیة تدعو إلى «الحمیة» و«التعصّب» و«الحفیظة الجاهلیة»، غیر أنّ الثقافة الإسلامیة تدعو إلى «السکینة» و«الإطمئنان» و«ضبط النفس».

ثمّ یضیف القرآن فی هذا الصدد قائلاً: (وألزمهم کلمة التقوى وکانوا أحقّ بها وأهله)..

(کلمة) هنا بمعنى «روح»، ومعنى الآیة أنّ الله ألقى روح التقوى فی قلوب أولئک المؤمنین وجعلها ملازمة لهم ومعهم، کما نقرأ ـ فی هذا المعنى ـ أیضاً الآیة 171 من سورة النساء فی شأن عیسى بن مریم إذ تقول الآیة: (إنّما المسیح عیسى بن مریم رسول الله وکلمته ألقاها إلى مریم وروح منه).

واحتمل بعض المفسّرین أنّ المراد من «کلمة التقوى» ما أمر الله به المؤمنین فی هذا الصدد!

إلاّ أنّ المناسب هو «روح التقوى» التی تحمل مفهوماً تکوینیاً، وهی ولیدة الإیمان والسکینة والالتزام القلبی بأوامر الله سبحانه، لذا ورد فی بعض الروایات عن النبیّ(صلى الله علیه وآله) أنّ المراد بکلمة التقوى هو کلمة لا إله إلاّ الله(2)، وفی روایة عن الإمام الصادق(علیه السلام) أنّه فسّرها بالإیمان(3).

ونقرأ فی بعض خطب النّبی (صلى الله علیه وآله) قوله: «نحن کلمة التقوى وسبیل الهدى»(4) وشبیه بهذا التعبیر ما نُقل عن الإمام علی بن موسى الرضا (علیه السلام) قوله: «ونحن کلمة التقوى والعروة الوثقى»(5)!

وواضح أنّ الإیمان بالنبوّة والولایة مکمل للإیمان بأصل التوحید ومعرفة الله لأنّهما جمیعاً داعیانِ إلى الله ومنادیان للتوحید.

وعلى کلّ حال فإنّ المسلمین لم یُبتلوا فی هذه اللحظات الحسّاسة بالحمیّة والعصبیة والنخوة والحفیظة، وما کتب الله لهم من العاقبة المشرفة فی الحدیبیّة لم تمسسْه نار الحمیة والجهالة!

لأنّ الله یقول: (وألزمهم کلمة التّقوى وکانوا أحقّ بها وأهله).

وبدیهی أنّه لا یُنتظر من حفنة عتاة وجهلة وعبدة أصنام سوى (حمیّة الجاهلیة) ولا ینتظر من المسلمین الموحّدین الذین تربّوا سنین طویلة فی مدرسة الإسلام مثل هذا الخلق والطباع الجاهلیة، ما ینتظر منهم هو الاطمئنان والسکینة والوقار والتقوى، وذلک ما أظهروه فی الحدیبیّة ولکن بعض حادّی الطبع والمزاج أوشکوا على کسر هذا السدّ المنیع بما یحملوه من أنفسهم من ترسبات الماضی وأثاروا البلبلة والضوضاء، غیر أنّ سکینة النّبی(صلى الله علیه وآله) ووقاره کانا کمثل الماء المسکوب على النّار فأطفأها!

وتُختتم الآیة بقوله سبحانه: (وکان الله بکلّ شیء علیم). فهو سبحانه یعرف نیّات الکفّار السیئة ویعرف طهارة قلوب المؤمنین أیضاً فینزل السکینة والتقوى علیهم هنا، ویترک اُولئک فی غیّهم وحمیّتهم حمیّة الجاهلیة، فالله یشمل کلّ قوم وأمّة بما تستحقّه من اللطف والرحمة أو الغضب والنقمة!

1. یستوفی الفعل «جعل» مفعولاً واحداً أحیاناً وذلک إذا کان معناه «الإیجاد» کالآیة محل البحث وفاعله «الذین کفروا» ومفعوله «الحمیة» والمراد بالإیجاد هنا البقاء على هذه الحالة والتعلّق بها، وقد یستوفی هذا الفعل «جعل» مفعولین وذلک إذا کان بمعنى «صار».
2. تفسیر الدرالمنثور، ج 6، ص 80.
3. أصول الکافی، طبقاً لما نقل فی تفسیر نور الثقلین، ج 5، ص 73.
4. خصال الصدوق، ج 2، ص 432، وتفسیر نورالثقلین، ج 5، ص 73.
5. بحارالانوار، ج 23، ص 35، وتفسیر نورالثقلین، ج 5، ص 74.

قلنا أنّ «الحمیّة» فی الأصل من مادة «حَمِی» ومعناها الحرارة، ثمّ صارت تستعمل فی معنى الغضب، ثمّ استعملت فی النخوة والتعصّب الممزوج بالغضب أیضاً..

وهذه الکلمة قد تستعمل فی هذا المعنى المذموم «مقرونة بالجاهلیة أو بدونها» بعض الأحیان، وقد تستعمل فی المدح حیناً آخر، فتکون عندئذ بمعنى التعصّب فی الاُمور الإیجابیة البنّاءة!

یقول الإمام أمیر المؤمنین(علیه السلام) حین انتقده بعض أصحابه المعاندین: «مُنیت بمن لا یطیع إذا أمرت ولا یجیب إذا دعوت أما دین یجمعکم ولا حمیّة تحشمکم»(1).

غیر أنّ هذه الکلمة غالباً ما ترد فی الذم کما ذکرها الإمام علی(علیه السلام) مراراً فی خطبته القاصعة ذامّاً بها إبلیس إمام المستکبرین: «صدّقه به أبناءُ الحمیة وأخوان العصبیة وفرسان الکبر والجاهلیة»(2).

وفی مکان آخر من هذه الخطبة یقول محذّراً من العصبیات الجاهلیة: «فاطفئوا ما کمن فی قلوبکم من نیران العصبیة وأحقاد الجاهلیة فإنّما تلک الحمیة تکون فی المسلم من خطرات الشیطان ونخواته ونزعاته ونفثاته»(3).

وعلى کلّ حال فلا شکّ أنّ وجود مثل هذه الحالة فی الفرد أو المجتمع باعث على تخّلف ذلک المجتمع وتکبیل العقل والفکر الإنسانی ومنعه من الإدراک الصحیح والتشخیص السالم… وربّما تذرُ جمیع مصالحه مع الریاح!…

وأساساً فإنّ انتقال السنن الخاطئة من جیل لآخر ومن قوم لآخرین ما کان إلاّ فی ظل هذه الحمیّة المشؤومة، ومقاومة الأمم للأنبیاء والقادة غالباً ما تکون عن هذه السبیل أیضاً…

یُنقل عن الإمام علی بن الحسین حین سئل عن «العصبیة» أنّه قال(علیه السلام): «العصبیة التی یأثم علیها صاحبها أن یرى شرار قومه خیراً من خیار قوم آخرین ولیس من العصبیة أن یحب الرجل قومه ولکن من العصبیة أن یعین قومه على الظلم»(4).

إنّ خیر سبیل لمقاومة هذه السجیة السیئة والنجاة من هذه المهلکة العظمى السعی والجد لرفع المستوى الثقافی والفکری وإیمان کلّ قوم وجماعة..

وفی الحقیقة إنّ القرآن عالج هذا المرض بالآیة المتقدّمة ـ محل البحث ـ حیث یتحدّث عن المؤمنین ذوی السکینة والتقوى، فحیث توجد التقوى فلا توجد حمیّة الجاهلیة، وحیث توجد حمیّة الجاهلیة فلا تقوى ولا سکینة.

1. نهج البلاغة. الخطبة 39.
2. المصدر السابق، الخطبة 192.
3. المصدر السابق.
4. تفسیر نور الثقلین، ج 5، ص 73، ح 70.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.